محطات في حياة نيافة أنبا إبيفانيوس

حياة أنبا إبيفانيوس

ميلاده ودراسته

وُلِدَ نيافة أنبا إبيفانيوس، واسمه بالميلاد: تادرس زكي تادرس جرجس، يوم الأحد الموافق 27 يونية 1954 في مدينة طنطا التابعة لمحافظة الغربية. نشأ وترعرع في أسرة تقيَّة متديِّنة مرتبطة بالكنيسة ارتباطًا روحيًا صادقًا، والده الأستاذ زكي، مشهودُ له من الجميع بودِّه ووداعته والتزامه ودقَّته وأمانته، لذلك فقد اختاره المتنيِّح الأنبا يوأنس أسقف الغربية السابق عضوًا في مجلس كنيسة مارجرجس بالحمرة. وقد انطبعت صفات الأب على كل أفراد الأسرة أولادًا وبناتًا وأخذوا نفس ملامح أبيهم في الود والبساطة والوجه البشوش المبتسم دائمًا. هكذا شهد بذلك كل شعب الكنيسة التي كانوا يصلون بها.

أما عن الابن تادرس (نيافة الأنبا إبيفانيوس) فكان منذ صباه يتصف بالذكاء المتوقِّد والبساطة وحب الاطلاع. وكان خادمًا بكنيسة مار جرجس الحمرة التي بجوار سكنهم. وقد أُسنِدَ إليه مكتبة استعارة الكتب في أوائل السبعينيات عن طريق أحد خُدَّام الشباب الجامعي بكنيسة مارجرجس بكفر أبو النجا بطنطا. وكان هذا الخادم النشيط يأخذ مجموعة صغيرة منتقاة من شباب الاجتماع في رحلة إلى أديرة وادي النطرون ومنها دير أنبا مقار. وكان الدير في ذلك الوقت في مرحلة إعادة إعماره. وتركت هذه الزيارة في نفس الدكتور تادرس – طالب الطب حين ذاك – انطباعًا قويًّا وارتياحًا، وكانت هذه هي الشرارة التي بدأت تشتعل في قلبه للانخراط في حياة الرهبنة في هذا الدير. وتقابل شباب الرحلة مع بعض الآباء القدامى المباركين، ولفت نظرهم البهجة والفرح المرتسم على وجوه الآباء رغم أنهم كانوا يشتغلون في أعمال إعمار الدير الشاقة، والعرق يتصبَّب من جبينهم، والملابس المعفَّرة بالأتربة من جراء العمل الشاق الذي يقومون به.

وتوالت الزيارات للدير، وازداد التعلُّق الروحي بالمكان، ولا سيما مع بدء تعرُّفه على الأب متى المسكين، وخاصة خلال أسبوع الآلام، الذي ترتَّب حضوره فيه مع بعض الشباب، وكان الأب متى المسكين يحضر يوميًا ويعظ على أناجيل السواعي وكانت العظات قويَّة جدًّا وذات تأثير لا يُنسى على نفوس السامعين.

وبتدبير إلهي جلس الأب متى المسكين مع الشباب الذين كانوا مقيمين بالمضيفة بعد البصخة المسائية، وفي نهاية الجلسة سألهم: ”مَنْ منكم يُجيد حفظ لحن أمونوجينيس؟“، فارتفعت أصابع قليلة على استحياء، فقال لهم: ”حنحبسكم هنا ونحفظكم الألحان وبعدين نرهبنكم وإلا نكون قد تعبنا معكم عبثًا“! وقد شجَّعهم هذا الكلام على حفظ الألحان والتسبحة حتى أنهم كانوا يسبِّحون في سهرات كنيستهم في طنطا لا سيما في الأجازة الصيفية يوم الأحد. أما كلمات الأب متى المسكين فقد اصطادت في تلك الجلسة ما لا يقل عن خمسة إخوة ترهَّبوا بعد ذلك على مدى السنين.

 تخرَّج من كلية الطب وحصل على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة طنطا عام ١٩٧٨، وتخصَّص في طب ”الأنف والأذن والحنجرة“. أمضى سنة التكليف بإحدى محافظات الوجه البحري. ثم تعيَّن طبيبًا مقيمًا (نائب أنف وأذن وحنجرة) بمستشفي سوهاج التعليمي. وازدادت فترات تردده على الدير في هذه السنوات. ثم اتخذ قرارًا بدخول الدير بصفة نهائية، وحضر إلى الدير وكان معه أحد زملائه الذي كانت عنده نفس الرغبة، وطلبا مهلة بسيطة لتصفية متعلقاتهما.

وما هو إلَّا أسبوع حتى رجع الأخ تادرس إلى الدير، وعلى محياه ترتسم مشاعر التأثر ودموعه في عينيه وصوته متهدِّج من شدَّة الانفعال والفرح الروحي. وبعد أسبوع آخر حضر زميله لدخول الدير بنفس مشاعر الفرح والتأثر. وبعد أسبوع كان يوافق صباح الاثنين أول أيام الصوم الأربعيني المقدَّس 1984، حيث تم إلباسهما زي الابتداء البني بيد المتنيح القمص كيرلس المقاري، ليبدآ مسيرتهما الرهبانية.

رهبنته وخدمته بالدير

التحق الأخ تادرس بدير القديس الأنبا مقار يوم الجمعة الموافق 17 فبراير 1984، وبدأ عمله في الدير كأي مبتدئ، فعمل أولًا في حظيرة تربية الدواجن، بجانب مساعدته للآباء الأطباء في خدمة المرضى من الرهبان والعمال. ولكنه كان متميِّزًا في سرعة استجابته وانفتاحه ونعمة الإفراز الواضحة فيه، وشغفه الشديد بالقراءة والاطلاع والبحث، حتى أنه لَفَتَ انتباه أباه الروحي القمص متى المسكين في إجابته واتِّساع معرفته، فنقله بعد فترة للعمل في المطبعة مع الآباء العاملين هناك.

 ورُسِمَ راهبًا باسم إبيفانيوس المقاري في ليلة سبت النور، يوم السبت الموافق 21 أبريل 1984. فازداد نشاطه في الخدمة والعطاء والبذل، وكان مثالًا للراهب الملتزم والغيور، المحب للقراءة والاطلاع والبحث، فأضيف إليه مساعدة الآباء المشرفين على مكتبة الدير الحافلة بالمراجع الدينية ودوائر المعارف والقواميس في مختلف الموضوعات واللغات، والمجلات الدورية المتخصصة، والمخطوطات القديمة. واستمرَّ عمله في المكتبة واهتم بتنسيقها وترتيبها وتزويدها بأهم المراجع وأحدث الكتب الجديدة الهامة، وتنظيم استعارتها وتشجيع الرهبان على القراءة والبحث.

اختاره أباه الروحي، المتنيح القمص متى المسكين، لمرافقته في رحلته العلاجية لأمريكا عام 1997. وطلب منه مرافقة الأب يوحنا المقاري في رحلته العلاجية لألمانيا عام 2002، وذلك لثقته في حكمته. وظل على عهده دائمًا في الاهتمام بالمرضى، وبالأخص الذين في المراحل المتأخرة والخطيرة من مرضهم، مثل الأب باناجياس المقاري، والأب لوقا المقاري اللذين خدمهما ورافقهما حتى رقادهما الأخير، في محبة وبذل وعطاء مخلص ووداعة.

ولم يتحلَّ فقط بعنايته للمرضى، بل تميَّز أيضًا بحبه للدراسة والبحث. فاستأمنه الدير على مكتبة الاطلاع والمخطوطات، فعكف على البحث والدراسة. تعلم وأتقن العديد من اللغات القديمة والحديثة، فأتقن اللغة القبطيَّة واليونانيَّة، ودراسة المخطوطات، ونقل منها إلى العربيَّة العديد من الكتابات. وليس ذلك فحسب، بل قام بنشر العديد من مخطوطات الدير. كما استأمنه الدير على حساباته البنكية من حيث إيراداته ومصروفاته، فأخلص فيها وأجادها.

رسامته قسًّا

رُسِمَ الراهب إبيفانيوس المقاري قسًّا يوم الخميس الموافق 17 أكتوبر 2002، بيد صاحب النيافة المتنيح أنبا ميخائيل، مطران أسيوط ورئيس الدير حينذاك، الذي كان يترأسه منذ عام 1946. وكان أنبا ميخائيل قد سبق وتقدم عام 2009 باستقالته من رئاسة الدير، إلَّا أنه استمر في متابعته بعد نياحة قداسة البابا شنودة الثالث حتى عام 2012. وعقب جلوس قداسة البابا تواضروس الثاني، أبدى نيافة أنبا ميخائيل، مطران أسيوط ورئيس الدير، رغبته في إعفائه من رئاسة الدير، وأن يقوم قداسة البابا برسامة أحد رهبان الدير أسقفًا له، وذلك نظرًا لتقدُّمه في السن (93 عامًا) وبسبب ظروفه الصحية.

انتخابه أسقفًا لدير أنبا مقار

تم عمل اقتراع سري بين الآباء الرهبان، من خلال بطاقة مختومة بخاتم الدير، وتم فرز أصوات الآباء الرهبان بدير أنبا مقار (100 راهب)، والتي أدلوا بها في الدير يوم الأحد الموافق 3 فبراير 2013، لانتخاب رئيس للدير من بينهم. كان ذلك في حضور القمص أنجيلوس، سكرتير قداسة البابا تواضروس الثاني. وكانت الأسماء المُرشحة لرئاسة الدير من رهبان دير أنبا مقار هي: الراهب إيسيذوروس، والراهب بترونيوس، والراهب إبيفانيوس. وثلاثتهم من أفاضل الرهبان وشيوخ الدير، والمتمرسين في الحياة الرهبانية، والنشطين في الأعمال اليومية في الدير.

جاءت نتيجة الفرز اختيار الرهبان للأب الراهب القس إبيفانيوس المقاري بأغلبية الأصوات، حسب بيان قداسة البابا. وقد أيَّد هذا الاختيار صاحبُ النيافة أنبا ميخائيل، مطران أسيوط ورئيس الدير، وذلك بتزكية مكتوبة استلمها الراهبُ إبيفانيوس باليد من نيافته، وسَلَّمها بدوره إلى قداسة البابا تواضروس.

استقبل قداسةُ البابا تواضروس الراهبَ إبيفانيوس المقاري قبل رسامته أسقفا لأول مرة داخل المقر البابوي في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وذلك في يوم الثلاثاء الموافق 26 فبراير 2013، حيث تم إبلاغ الراهب باختياره لرئاسة الدير. وأوصاه قداسته بأن يعيد إلى دير القديس أنبا مقار صورته المُشرقة الأولى ويجمع شَمْل الدير.

رسامته أسقفًا للدير

رُسم أنبا إبيفانيوس أسقفًا ورئيسًا لدير القديس أنبا مقار يوم الأحد الموافق 10 مارس 2013 بيد قداسة البابا تواضروس الثاني، فأصبح أنبا إبيفانيوس باكورة رسامات قداسته، وأوَّل مَنْ وضع عليه اليد الرسولية عقب تنصيب قداسته بطريركًا. تم الاحتفال بالتجليس عشية عيد الصليب المجيد، يوم الإثنين الموافق 18 مارس 2013، واشترك في صلوات التجليس أكثر من 40 أسقفًا.

حياته بعد الأسقفية

يقول عنه الأب الراهب يوحنا المقاري: ”عاش بيننا في زهد وتجرُّد تام عن كل مظاهر الأسقفية، ببساطة الرهبان، بلا عمامة ولا عصا ولا صليب ذهبي، بل ولم يكن يقبل إطلاقًا تقبيل يده أو السجود له تكريمًا لرتبته الكهنوتية، ولا حتى إجراء الطقوس الخاصة بالأساقفة عند حضوره الكنيسة من الألحان والمدايح والمزامير. عاش بيننا كواحد مِنَّا، بلا تعالٍ أو ترؤُّس بأي شكل من الأشكال، وديعًا متواضعًا كسيِّده المسيح، حتى إنه لم يكن يستنكف أن يكون بيننا كالذي يخدم حسب قول المسيح: ”أنا بينكم كالذي يخدم“ (لو 22: 27). وبعد اختياره أسقفًا تجلَّت مواهبه بالأكثر، فازداد اتضاعًا وحبًّا، ورأى فيه الكثيرون نقًاء واستنارًة كانت خافيًة عنَّا لأننا اعتدنا عليها. كان وجهه مشرقًا بنور المسيح الذي يُشعُّ بالأكثر في ابتسامته الهادئة وصوته الخفيض. ورغم وادعته وتواضعه، فقد لمحتُ فيه جراءته في الحق واهتمامه للتصدِّي في إظهار الرأي الصائب في كل ما تختلف فيه الآراء أحيانًا لبعض القضايا التي تعوق وحدة الكنائس واتحاد الرأي في أمور لا تحتمل الاختلاف إذ لها إثباتاتها المُفْحِمَة من المراجع الأصيلة والمخطوطات.“

نياحته

رقد في الرب فجر يوم الأحد 22 أبيب 1734ش، الموافق 29 يوليو 2018م، بعد خمس سنوات فقط من أسقفيته، حيث عُثِر عليه وسط بِرْكة من الدماء، في الطريق بين قلايته والكنيسة، على بُعد ما يقرب من عشرة أمتار من قلايته، وذلك أثناء خروجه من قلايته للذهاب لصلاة التسبحة وقداس مجمع الدير، حيث تعرَّض نيافته للضرب بآلة حادة (ثلاث ضربات) على الرأس من الخلف بيد الغدر، مما أدى لوفاته في الحال عن عمر ناهز 64 عامًا داخل ديره.

خرج وحده من قلايته ليقدِّم نفسه ذبيحة عن ديره، وكأنه كان يردد في نفسه، وهو ذاهب إلى الكنيسة، لكي يقدِّم ذبيحة الإفخارستيا، قول القديس إغناطيوس الأسقف الشهيد:

[إنني، وبملء إرادتي الحرة، ذاهب لكي أموت من أجل الله، ما لم تُعيقوني أنتم .. أتوسَّل إليكم .. لا تشفقوا عليَّ بلا داعٍ .. دعوني أصير طعامًا للوحوش المفترسة، طعامًا يوصِّلني إلى الله. أنا حنطة الله، سأطحَن تحت أنياب الوحوش لكي أصير خبزًا نقيًّا للمسيح .. وحينئذٍ أصير تلميذًا حقيقيًّا ليسوع المسيح، حين لا يرى العالم جسدي بعد. ]

وعلى أثر ذلك نُقل الجثمان إلى مستشفى دمنهور العام لاستجلاء سبب الوفاة. عاد جثمان مثلث الرحمات، نيافة أنبا إبيفانيوس، إلى دير أنبا مقار العامر بوادي النطرون صباح يوم الثلاثاء الموافق 31 يوليو 2018، حيث حضر الجثمان صلوات القداس مع آباء مجمع الدير، ووُضِع الجثمان أمام هيكل الكنيسة الأثرية بالدير. وقد وصل قداسة البابا أنبا تواضروس الثاني للدير في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، وبدأت على الفور صلوات تجنيز مثلث الرحمات نيافة أنبا إبيفانيوس بالكنيسة الأثرية بالدير، بحضور قداسة البابا، وعدد كبير من أحبار الكنيسة، والآباء الكهنة والرهبان، وأسرة نيافة الأنبا إبيفانيوس، كما حضر ممثلو عددٍ من الطوائف المسيحية والشخصيات العامة.

اتسمت حياة أنبا إبيفانيوس بالوداعة والتواضع والتجرد والنسك، مع العلم الغزير الذي أثمر تعاليم ودراسات مميزة في فروع العلوم الكنسية المختلفة.

نطلب من الرب نياحًا لروحه الطاهرة، وراحة لنفسه البارة، وعزاءً لمجمع ديره ولكل أبنائه وأحبائه.