آلام المسيح

عظة للقديس ألكسندروس البابا ال 19 للإسكندرية

 

آلام المسيح

كما تعلمون أيها الأخوة الأحباء أن الأشرار وغير المؤمنين هم أعداء التقوى, إذن فلتحذروا منهم ولتتمسكوا بالإيمان والمحبة اللتين بهما خَلَصَ كل القديسين منذ بدء العالم إلى يومنا. لتظهروا ثمار المحبة, ليس بالكلام فقط، ولكن أيضًا بالعمل بكل صبر من أجل الله.

انظروا, لقد أظهر الرب محبته نحونا, ليس فقط بالكلام، لكن كذلك بالفعل، بتقديم نفسه ثمنًا لخلاصنا. بجانب ذلك, لم نُخلق بمجرد كلمة من فم الله مثل بقية المخلوقات، لكن أيضًا بالعمل. لأن الله أوجد كل الخليقة بكلمة واحدة من فمه، أما نحن فخلقنا بقوه الكلمة وبالعمل. لم يكتفِ الله أن ينطق «لنخلق الانسان علي صورتنا وشبهنا» (تك 26:1) لكنه اتبع كلمته بأن أخذ ترابًا من الأرض وصنع منه الإنسان حسب صورته ومثاله، ونفخ فيه نسمة الحياة ليصبح آدم نفسًا حيةً.

لكن حين مال الإنسان إلى الموت بالسقوط, كان من الضروري أن يعيد نفس الصانع الأصلي خلقته من جديد.

لأن الجسد يرقد متحلِّلاً في الأرض، أما النفس التي كانت نسمة الحياة فتُحجز منفصلة عن الجسد في المكان المظلم أي الجحيم.

اذن كان هناك انفصال بين النفس والجسد, النفس تطرد إلى المكان السفلي (الجحيم) بينما الجسد يتحلل في التراب, وكان هناك حاجز كبير بينهما. لأن الجسد يفسد بتحلل اللحم، والنفس إذ تتحرر منه يتوقف عملها.

كمثال الملك الذي قُبض عليه فانهارت مدينته, أو قائد الجيش الذي أُسر فتشتت جيشه, أو قائد الدفة متى ارتبك تغرق السفينة، كذلك النفس حين تُقيد بالسلاسل يتفكك الجسد كمثل مدينه بدون ملك، وتتحلل أعضاؤه مثل جيش فقد قائده، ويغرقون في الموت مثل السفينة حين تحرم من قائد الدفة.

كانت النفس تتحكم في الإنسان طالما كان الجسد حيًّا، مثل الملك الذي يحكم مدينته، وقائد الجيش الذي يسيطر على جيشه، وقائد الدفة على سفينته.

لكنها أصبحت بلا قدرة على التحكم فيه منذ أن كانت مرتبطة به بثبات، لكنها غرقت في الضلال وسقطت وتبعت المجربين وتحولت إلى الزنى وعباده الأصنام وإراقة الدماء، وبتلك الأعمال الشريرة أفسدت الطبيعة الإنسانية. بل هي أيضًا حُملت إلى الأماكن السفلى وسُجنت بالمجرب الشرير.

كما أنه من المعتاد أن يستعيد الملك مدينته المحطمة، وأن يجمع القائد جيشه المشتت، ويصلح البحار سفينته المعطبة, كان يمكن أن تعين النفس الجسد قبل تحلله في التراب لو لم تكن هي نفسها مقيدة.

لكن بعد أن أصبحت النفس مقيدة- ليس بغلال مادية بل بالخطيئة- بالتالي أصبحت عاجزة عن العمل، وبالتالي تركت جسدها في التراب، ولأنها طُردت إلى الأماكن السفلى فأصبحت هي نفسها باب الموت والمهانة للكل.

لكن الآن بعد كل قيود الإنسان إلى الموت والفساد, افتقد الله خليقته التي صنعها على شبهه ومثاله، وفعل ذلك كي لا يلهو بها الموت إلى الأبد. لذلك أرسل الله ابنه غير المادي من السماء ليأخذ جسدًا في رحم العذراء ويتجسد ليخلص الإنسان الساقط ويجمع أعضاءه المتفرقين. لأن المسيح حين وحَّد الطبيعة البشرية بأقنومه، وحد ما شتته الموت بانفصال الجسد. تألم المسيح كي نحيا نحن إلى الأبد.

لأي سبب آخر كان يجب على المسيح أن يموت ؟ هل اقترف أي شيء يستوجب الموت؟ لماذا لبس الجسد وهو الملتحف بالمجد؟ هو الله فلماذا صار إنسانًا؟ كان يملك في السماء فلماذا نزل إلى الأرض وتجسد في رحم العذراء؟

ما هي الضرورة التي حتمت على الرب أن ينزل إلى الأرض ليأخذ جسدًا ويتدثر في قماط في المزود؟ ويرضع من الثدي ويقبل المعمودية من العبد و يُرفع على الصليب لكي يدفن في القبر ويقوم ثانية من الموت في اليوم الثالث؟ أقول ما هي الضرورة التي حتمت عليه كل ذلك؟

لقد كان كافيًا أنه قاسى العار من أجل الإنسان وصرخ كما جاء في كلمات النبي ” تجلَّدت كالوالدة” (إش 14:42) كي يحرره من الموت. بالحقيقة تحمل من أجلنا الألم والمهانة والتعذيب وحتى الموت نفسه والدفن. لهذا يقول هو نفسه على لسان النبي ” نَزَلْتُ إِلَى أَسَافِلِ الْجِبَالِ” ( يونان 6:2) ما الذي جعله ينزل إلى أسفل؟ الإنسان الشرير.

 انتبهوا يا أبناء البشر أي مجازاه قدمتها له إسرائيل؟ لقد ذبحت من أنعم عليها، وردت الصلاح شرًا والفرح مذلة والحياة موتًا.

لقد ذبحوا على الصليب من أعاد موتاهم إلى الحياة وشفى المفلوجين منهم، وجعل الأبرص صحيحًا وأعطى النظر للعمي.

انتبهوا يا أبناء البشر، وانظروا يا كلَّ الناس إلى تلك العجائب. لقد علقوا على الشجرة من بسط الأرض, لقد ثقبوا بالمسامير من ثبت أساسات الأرض, لقد أحاطوا بمن يحيط بالسموات, لقد قيدوا من غفر للخطأة, لقد قدموا له خلاً وهو الذي سقاهم من البِّر, لقد قدموا مرًّا لمن قدم لهم خبز الحياة, لقد ثقبوا يدي و رجلي من شفى أرجلهم وأيديهم, لقد أغلقوا عينيه بقسوة وهو من أعاد البصر إليهم, لقد سلموه إلى القبر وهو الذي أقام موتاهم سواء قبل آلامه وأيضًا بينما هو معلَّقٌ على الشجرة.

لأنه بينما كان الرب يتألم على الصليب تفتحت القبور وكشفت الأماكن السفلية ووثبت النفوس وعاد الأموات إلى الحياة وشوهد الكثيرون منهم في أورشليم , بينما كان سر الصليب يكمل, سحق الربُّ الموتَ وحل العداوة وربط القوي وجعل الصليب علامة نصرة , حيث إن جسده قد رُفع عليه ليتراءَى الجسد في الأعالي ولينهزم الموت تحت أقدام الإنسان.

حينئذ تعجبت القوات السماوية واندهشت الملائكة وارتعبت الطبيعة وارتجفت كل الخلائق حين شاهدت هذا السر الجديد وهذا المشهد الرائع الذي كان يحدث في الكون. لكن الجموع, لأنها لم تدرك السر, تهللت في سخرية من المسيح , مع أن الأرض ارتعبت والجبال والأودية والبحار اهتزت وكل خليقة الله وقعت في حيرة. ارتعبت أنوار السماء و هربت الشمس واختفى القمر وسحبت النجوم لمعانها, ومع نهاية اليوم رحل الملاك من الهيكل في دهشة بعد أن تمزق الحجاب وغمر الظلام الأرض لأن ربها أغلق عينيه.

في الوقت نفسه لمع الجحيم بالنور لأن النجم نزل إلى هناك . لم ينزل الرب إلى الجحيم بجسده بل بروحه. لقد كان في الحقيقة يعمل في كل مكان, فبينما أقام الأموات بجسده، حرر نفوسهم بروحه. لأنه بينما كان جسده معلقاً على الصليب تفتحت كما ذكرنا القبور وفتح الجحيم. أعيد الأموات إلى الحياه وأُرسلت أنفسهم مرة ثانية إلى العالم. ولأن الرب قد قهر الجحيم وداس الموت وأخزى العدو ورجعت النفوس من الجحيم وظهر الأموات على الأرض.

انظروا ما أعظم نتائج موت المسيح, لم تتحمل أي خليقة موته ولم تتحمل الطبيعة آلامه, ولا الأرض استطاعت أن تحتوي جسده ولا الجحيم روحه. كل الأشياء اضطربت وتزلزلت بآلام المسيح. صرخ الربُّ كما صرخ من قبل إلى لعازر قائلاً: قم أيها الميت من قبرك ومن مكانك المخفي، لأني أنا هو المسيح أقيمك .

الأرض لم تتحمل جسد ربنا المدفون فيها لكنها صرخت قائلة: يا ربي، اغفر آثامي, خلصني من غضبك وحلني من اللعنة, لأني تلقيت دم البار ولم أستر أجساد البشر ولا جسدك, ما أعظم هذا السر العجيب؟ لماذا يا رب نزلت إلى الأرض ما لم يكن ذلك من أجل الإنسان الذي تشتت في كل مكان لأنه في كل مكان انتشرت صورتك الحسنة.

نعم لو كنت قلتَ كلمة واحدة لخضع لك كل البشر. الآن ولأنك أتيت إلى الأرض وبحثت عن خليقتك وتحملت من أجل الإنسان الذي هو لك وقبلت كل ما اقترف في حقك استعدت صورتك أي آدم .

بعد ذلك قام الرب في اليوم الثالث لموته راداً الإنسان إلى معرفة الثالوث. حينئذ خلصت كل الأمم بالمسيح. خضع الواحد إلى الحكم فخلص الآلاف. بالإضافة إلى ذلك كونه شابه الإنسان الذي خلصه صعد إلى أعلى السموات ليقدم إلى أبيه ليس ذهباً ولا فضةً أو أحجارً ثمينة لكن الإنسان الذي خلقه على صورته ومثاله والآب أقامه على يمينه وأجلسه على عرش في الأعالي وأعطى له أن يدين كل البشر وجعله رئيس أجناد الملائكة وقائد مركبه الشاروبيم, ابن أورشليم الحقيقية, عريس العذراء والملك إلى الأبد.

تعليق على العظة:

سبب التجسد: المحبة:

[ واضح أن تجسد الرب وموته من أجلنا كان بدافع المحبة]

لماذا تركيز الآباء على المحبة؟ أولاً لأن هذا واضح من كلام الرب نفسه:

لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ (يو 3: 16).

ثانياً: المحبة هي وسيلة خلاصنا، لأن الرب يقول: وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً (يو  13 :  34). أي المحبة الباذلة.

ويقول في رسالة يوحنا الأولى أصحاح 3: 14- نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ لأَنَّنَا نُحِبُّ الإِخْوَةَ. مَنْ لاَ يُحِبَّ أَخَاهُ يَبْقَ فِي الْمَوْتِ.  15- كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ قَاتِلِ نَفْسٍ لَيْسَ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِيهِ.  16- بِهَذَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ الإِخْوَةِ.

إن لم يكن الدافع للفداء هو الحب، فالمقابل أن يكون الدافع هو العدل: إيفاء العدل الإلهي.

مفهوم إيفاء العدل الإلهي نشأ في أوربا، أيام الإقطاعيات والأمراء، لحماية المجتمع من ثورات العبيد. وكان من الصعب انتقال هذا المفهوم لمصر لسببين:

أولاً: لم يكن المصريون الأقباط أصحاب سلطان وحكم في مصر تقريباً على مدى عصورهم، لذلك لم يكن يخشى عليهم من ثورات المحكومين.

ثانياً: ابتداءً من القرن الرابع الميلادي وربما حتى العاشر، كان المجتمع القبطي مجتمعاً رهبانياً بالدرجة الأولى، والرهبنة تقوم على الحب والبذل، فمن السهل أن يتغلغل الفكر الإنجيلي السليم في المجتمع القبطي.

لكن بعد انفتاح المجتمع القبطي على الغرب، وظهرت الحاجة لمواجهة غير المسيحيين وشرح لهم أسباب التجسد، اضطر الأقباط الاستعانة بمفهوم العدل الإلهي، لأن غير المسيحيين لا يفهمون أن المحبة بذل، فمفهوم المحبة عندهم عاطفة وشهوة. وحتى لو تكلمنا بمفهوم العدل الإلهي، فيجب أن نقول إن الله رحيم في عدله، وعادل في رحمته، وهذا غير صحيح. فالعادل في رحمته ليس برحيم، والرحيم في عدله ليس بعادل.

 

اضغظ هنا للتحميل