الاستشهاد، ذكرى وواقع يعيشه المسيحيون

 

الكلمة التي ألقاها نيافة أنبا إبيفانيوس في مؤتمر حوار الأديان الذي تنظمه هيئة سانت إيجيديو، وقد عُقد اللقاء هذا العام في مدينة مونستر بألمانيا وحضره أيضًا عن الكنيسة القبطية الأستاذ جرجس صالح، كما مثل مصر فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور الطيب

الاستشهاد، ذكرى وواقع يعيشه المسيحيون

منذ فجر المسيحية، كانت الشهادة هي الصفة السائدة المصاحبة للكرازة بالإنجيل. وأكثرية تلاميذ ورسل الرب يسوع نالهم العذاب ونالوا إكليل الشهادة.

واستمر الاسشتهاد في الكنيسة على مدى عصورها، وعلى مستوى كافة الكنائس المسيحية في العالم أجمع. وكانت كنيستنا القبطية في مصر من أكثر الكنائس التي قدمت شهداء على اسم المسيح على مدى العصور، حتى عُرفت الكنيسة القبطية باسم : أم الشهداء، وصار التقويم القبطي يُعرف باسم تقويم الشهداء، وهو التقويم  المستمد من الحضارة الفرعونية، لكنه أخذ بداية جديدة مع بدء حكم الإمبراطور دقلديانوس، عام 284م، الذي كان اتسم عصره بالاضطهاد الوحشي ضد المسيحيين، ونالت الكنيسة القبطية القسط الأكبر من هذا الاضطهاد.

واستمرت كنيستنا تقدم شهداء على مدى عصورها، بسبب الحكام الأجانب الذين حكموا مصر على مدى تاريخها، ابتداءً من الدولة الرومانية والفارسية، ثم حكم العرب والمماليك والأتراك، حتى حلت العصور الحديثة، والتي تمتعت فيها الكنيسة بقدر من الحرية في العبادة وحقوق الإنسان إلى حدٍّ ما.

ومع تقدم الحريات الدينية، توقعنا أن تنتهي عصور الاستشهاد من الكنيسة. فقد أعلنت الكثير من الدول الغربية والشرقية على حد سواء تطبيق مبدأ المساواة بين المواطنين، وحرية الإنسان في اعتناق أي دين أو معتقد أو أي مبدأ سياسي، مع حماية القانون لهذه الحريات.

لكن التطرف الديني لم ينتهِ بالرغم من انفتاح الشعوب بعضها على بعض. وبدأ في الشرق الأوسط تتكون بعض الجماعات الدينية المتطرفة التي لا تؤمن بحرية المواطن في معتقده الديني. وبدأت هذه الجماعات تقتل كلَّ من يختلف معها دينياً. وكانت المفاجأة الكبرى أن بعض الدول المتقدمة التي تنادي بالحرية وحقوق الإنسان على أراضيها، هي التي تقوم بتقديم الدعم المادي والحربي لتلك الجماعات.

ودخلت مصر منطقة الخطر. ففي شهر فبراير من عام 2015، فوجئنا بذبح واحد وعشرين قبطياً على شاطيء البحر في ليبيا، فقط من أجل أنهم مسيحيون.

وفي هذا العام، وأثناء احتفال الكنيسة بأحد السعف، يوم الأحد 9 أبريل 2017، تم تفجير كنيستين، الأولى كنيسة مار جرجس بطنطا حيث استشهد فيها الجزء الأكبر من خورس شمامسة الكنيسة، والتفجير الثاني أمام باب الكنيسة المرقسية بالإسكندرية، حيث كان قداسة البابا يصلي قداس أحد السعف.

وفي الشهر التالي مباشرة، في يوم 26 مايو 2017، قامت مجموعة بتفجير أتوبيس يحمل بعض الأقباط، كانوا في طريقهم للصلاة في دير القديس أنبا صموئيل المعترف في شمال صعيد مصر. وسأل الإرهابيون الأطفال والسيدات داخل الأتوبيس هل أنتم مسيحيون، فلما أجابوا بالإيجاب، طالبوهم بإنكار الإيمان، فرفضوا. فتم ذبحهم وإطلاق النار على الباقين.

وقد حكى بعض الأطفال الناجين من المذبحة، كيف خيرهم الإرهابيون بين إنكار المسيح، أو الموت ذبحاً. والعجيب، بالرغم من بساطة هؤلاء القوم، وقلة معرفتهم الإنجيلية أو اللاهوتية، كان إيمانهم أقوى بكثير من بعض علماء الكتاب المقدس وأساتذة اللاهوت، وربما من بعض رجال الدين. فالاستشهاد على اسم المسيح يحتاج إلى إيمان حقيقي، وليس إلى دراسات لاهوتية قوية.

أو كما وصفهم قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية، هم أمثلة حية عاشوا بيننا ورضعوا الإيمان المستقيم منذ نعومة أظفارهم، بعض النظر عن الصفات الأخرى كالتعليم أو الثقافة أو العمر أو المستوى المعيشي أو الجنس. ولكن الذي يجمعهم أن الله يختارهم وهم في حالة روحية طيبة، وفي لحظات صادقة مع نفوسهم والاهتمام بأبديتهم (مجلة الكرازة، الجمعة 2يونيو 2017، ص 3).

يقول في ذلك المتنيح الأب متى المسكين، أب رهبان دير القديس أنبا مقار:

[… ليس معنى هذا أن الشهيد أو الاستشهاد درجة عليا من الإيمان، ولكن الشهيد إنسان يعلن إيمانه إعلانًا كليًّا ونهائيًّا على أساس الآية: «لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ» (في  1 :  21)، كاشفًا بذلك أنه يحيا فعلاً بالإيمان، يحيا بالمسيح لا على مستوى الكلام، بل على مستوى أصدق برهانًا، وهو استعداد الموت. باعتبار أن الموت هو باب الحياة الأبدية، والخلود مع المسيح] (الشهادة والشهداء، طبعة ثالثة 1987، ص 12).

هذه عينات مما يجري للمسيحيين في منطقة الشرق الأوسط، وفي بعض دول أفريقيا، الاستشهاد على اسم المسيح.

لقد حددت الكنيسة القبطية يوم استشهاد الأقباط في ليبيا، كعيد قبطي للاحتفال بالشهداء الجدد في مصر، حيث يضاف كل يوم أسماء جديدة لقائمة الشهداء.

والسؤال الآن، هل مع تقدم العلوم والتكنولوجيا وقوانين الحرية وحقوق الإنسان، نتوقع أن يختفي اضطهاد المؤمنين، وبالتالي ينتهي عصر الاستشهاد من الكنيسة؟

أشك في ذلك، حدث أن استضاف بعض خدام الإنجيل في الولايات المتحدة بعض المؤمنين الجدد من كوريا الجنوبية، فطرح مسيحيو كوريا هذا السؤال على الأمريكان: هل يوجد اضطهاد هنا للمؤمنين؟ فكانت الإجابة بالنفي القاطع، نحن بلد الحريات وليس عندنا اضطهاد ديني. فأجاب الكوريون، إذًا ليس هناك تقوى، فالكتاب المقدس يقول: «وَجَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَعِيشُوا بِالتَّقْوَى فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ» (2تي 3: 12).

ليس هذا نداءً لتشجيع الاضطهاد، لكنها دعوة لتحمل الاضطهاد إن جاء على المؤمنين، ولنتذكر كلمات الرب يسوع: «اُذْكُرُوا الْكلاَمَ الَّذِي قُلْتُهُ لَكُمْ: لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ» (يو 15: 20).

الاستشهاد في الكنيسة ذكرى مقدسة تزيد من إيماننا، كما أنها حقيقة تلاحق المؤمنين في كل عصر. وكما قدَّم المسيحيون الأوائل حياتهم من أجل انتشار بشارة الإنجيل في العالم، هكذا يقدم المسيحيون المعاصرون دماءهم من أجل الحفاظ على هذا الإيمان.

ومع تألمنا لما يحدث لنا وللمؤمنين في مناطق كثيرة من العالم، ما زلنا متمسكين بتعليم الكتاب المقدس: «بَارِكُوا عَلَى الَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُمْ. بَارِكُوا وَلاَ تَلْعَنُوا» (رو 12: 14).

 

اضغظ هنا للتحميل