الجسد المعطي الحياة
الجسد المعطي الحياة
في يوم الخميس الكبير، المعروف باسم خميس العهد، أسس ربنا يسوع المسيح سر الإفخارستيا، سر كسر الخبز وسفك الدم الكريم. فيخبرنا إنجيل القديس لوقا (أصحاح 22) بأحداث هذا اليوم قائلاً:
(14- 16) وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ اتَّكَأَ وَالاِثْنَا عَشَرَ رَسُولاً مَعَهُ. وَقَالَ لَهُمْ: «شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هَذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ».
يشرح القديس كيرلس (في تفسيره على إنجيل لوقا) معنى إني لا آكل منه حتى يكمل، أي أننا لن نقترب أو لن نحتفل بعد بهذا الفصح الرمزي حتى يكمل في ملكوت السموات أي حتى يتحقق بكماله في الكنيسة، التي هي ملكوت السموات. ففي القديم الذي كان يقدِّس الشعبَ هو خروف مذبوح، أما في الكنيسة فالذي يقدِّس هو المسيحُ نفسُه. والكنيسة نفسها بواسطة هذه الأولوجية السرية (الإفخارستيا) تعطي أو تمنح الحياة للمتناولين منها. ويركز القديس كيرلس على هذا المعنى بعد ذلك.
ثُمَّ تَنَاوَلَ كَأْساً وَشَكَرَ وَقَالَ: «خُذُوا هَذِهِ وَاقْتَسِمُوهَا بَيْنَكُمْ.
يقول القديس كيرلس: [لأنه يحل فينا، أولاً، بالروح القدس، فنصير نحن مسكنه… لكنه هو أيضًا يحلّ داخلنا بطريقة أخرى بواسطة مشاركتنا فى قربان التقدمات غير الدموية التى نحتفل بها فى الكنائس؛ إذ قد تسلّمنا منه النموذج الخلاصى للطقس مثلما يرينا بوضوح الإنجيلى المبارك فى النص الذى قرأناه منذ قليل، فهو يخبرنا أنه: «تناول كأسًا وشكر وقال : خذوا هذه اقتسموها بينكم». وبتقديمه الشكر ـ الذى يُقصد به التحدث مع الله الآب فى صيغة صلاة، فإنه يعنى بالنسبة لنا أنه – إن جاز القول – يشارك ويساهم مع الآب فى مسرته الصالحة فى منحه لنا البركة المحيية التى أُسبغت علينا حينئذ، لأن كل نعمة وكل موهبة تامة تأتى إلينا من الآب بالابن فى الروح القدس].
يشرح القديس كيرلس هنا أننا في صلواتنا الطقسية نطبق ما فعله الرب يسوع، بأن نعطي الشكر لله الآب، لكي تكون كل بركة من الآب بواسطة الابن في الروح القدس الفاعل في الأسرار.
ويكمل القديس كيرلس توضيح هذا الكلام: [وإذن فهذا العمل كان نموذجًا لنا لكى نستخدمه فى الصلاة التى ينبغى أن تُقدم، كلما بدأنا أن نضع أمامه نعمة “التقدمة السرية المحيية”، وتبعًا لذلك فإننا اعتدنا أن نفعل هذا، لأننا إذ نقدم أولاً تشكراتنا، مقدمين تسابيحنا لله الآب ومعه الابن والروح القدس، فإننا نقترب هكذا من الموائد المقدسة مؤمنين أن ننال حياة وبركة؛ روحيًا وجسديًا، لأننا نستقبل فى داخلنا كلمة الآب الذى صار إنسانًا لأجلنا، والذى هو الحياة ومعطى الحياة].
هنا القديس كيرلس يقرر ببساطة أن ما نقبله في الإفخارستيا هو كلمة الآب. ثم يكمل شرحه على فاعلية سر الإفخارستيا، وكيف أن الرب يسوع عندما تجسد أعطى جسده الخاص قوة الحياة حتى يبث فينا هذه القوة، فيقول:
[إذن، فكيف يمكن للإنسان على الأرض، الذى هو ملتحف بالموت أن يعود إلى عدم الفساد؟ أجيب بأنه يلزم لهذا الجسد المائت أن يصير شريكًا للقوة المحيية التى تأتى من الله. لكن قوة الله الآب المحيية هى الكلمة الوحيد[1]، وهو الذى أرسله لنا (الآب) كمخلِّص ومحرِّر. أما كيف أرسله لنا، فهذا ما يخبرنا به بوضوح يوحنا الإنجيلى المبارك عندما يقول: «والكلمة صار جسدًا وحل فينا» (يو14:1)… لكيما إذ قد غرس نفسه فينا باتحاد لا يقبل الانفصال، يمكنه أن يرفعنا فوق سلطان الموت والانحلال كليهما معًا…
وهكذا كلمة الله المحيى، إذ قد وحَّد نفسَه بجسده الخاص بطريقة معروفة لديه، فقد منحه قوة إعطاء الحياة. وهو نفسه يؤكد لنا هذا بقوله: …: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ». «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي» (يو53،51:6ـ57). لذلك عندما نأكل الجسد المقدس الذى للمسيح مخلِّصنا جميعًا، ونشرب دمه الثمين، تكون لنا حياة فينا، بكوننا جُعلنا واحدًا معه، كائنين فيه ومقتنين له أيضًا فينا].
نفس هذا الكلام يقوله في شرحه لشفاء حماة بطرس في تفسيره لإنجيل لوقا (4: 35):
[لما دخل (الرب) بيت بطرس وكانت العجوز منطرحة على الفراش، مريضة بحمى شديدة، فمع كونه كان قادراً أن يقول كإله: ”دعي عنكِ المرض وقومي“، لكنه لم يفعل ذلك، بل بالحري أظهر أن جسده الخاص قادر على منح الشفاء لأنه كان جسداً لله Θεοῦ ἦν σάρξ ، فأمسك بيدها (مت 8: 15، مر 1: 31) وللوقت كما يقول الكتاب تركتها الحمى. إذن فلنقبل نحن أيضاً يسوع لأنه حينما يدخل فينا ونقتنيه في قلوبنا وأفكارنا، فهو يطفئ منا حُمَّى الشهوات الرديئة ويقيمنا ويجعلنا أصحاء – أعني أصحاء روحيًّا – حتى أننا ”نخدمه“ أي نعمل الأعمال المرضية عنده … ومع أنه كان قادراً أن يجري المعجزات بمجرد كلمة أو إشارة منه، ولكن لكي يعلِّمنا شيئاً نافعاً لنا كان يبسط يديه على السقماء. فإنه كان يلزمنا جداً أن نتعلَّم أن الجسد المقدَّس الذي اقتناه لنفسه، قد اكتسى بقوة اللوغس وفاعليته، لأنه غرس فيه قوته الإلهية. إذن فلنجعله يمسك بنا نحن أيضاً أو بالحري فلنمسك نحن به بواسطة سر الأولوجيا (أي الإفخارستيا) حتى يحرِّرنا من عللنا النفسية ومن ضلال الشياطين ومكرهم].
ونختم بقول القديس كيرلس في بقية شرحه لسر الإفخارستيا المعطي الحياة، فيقول:
[لذلك، كان يليق به أن يكون فينا إلهيًا بالروح القدس (هنا يشير للمعمودية)، وكذلك أيضًا – إن جاز القول – يمتزج بأجسادنا بواسطة جسده المقدس ودمه الثمين، اللذين نقتنيهما أيضًا كإفخارستيا معطية للحياة فى هيئة الخبز والخمر، إذ لئلا نرتعب برؤيتنا جسدًا ودمًا (بصورة حسية) فعلية، موضوعين على الموائد المقدسة فى كنائسنا، فإن الله إذ وضع ذاته إلى مستوى ضعفاتنا، فإنه يسكب فى الأشياء الموضوعة أمامنا قوة الحياة، ويحولها إلى فاعلية جسده، لكيما نأخذها لشركة معطية للحياة، وكى يوجد فينا جسد (ذاك الذى هو) الحياة، كبذرة تنتج حياة].
هنا يشرح القديس كيرلس أن الكنيسة لها القدرة أن تمنح الحياة عندما تعطينا جسد المسيح في سر الإفخارستيا، وسر الإفخارستيا بدوره يمنحنا الحياة عندما يمتزج بأجسادنا، لأننا في سر الإفخارستيا نستقبل في داخلنا كلمة الله، حسب تعبير القديس كيرلس الكبير.
[1] وَأَمَّا لِلْمَدْعُوِّينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ فَبِالْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ (1كو 1 : 24)