رُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي
يخبرنا الكتاب المقدس أنه منذ بدء الخليقة، وقبل خلقة الإنسان الأول، كان الروح القدس عاملاً في الخليقة: «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ» (تكوين 1: 1-2). ثم يضيف سفر التكوين: «وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَاباً مِنَ الأَرْضِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْساً حَيَّةً» (تك 2: 7).
كما يخبرنا القداس الإلهي، في صلاة الصلح قائلاً: [يا الله العظيم الأبدي، الذي خلق الإنسان على غير فساد]. وهذه الحقيقة مقتبسة من سفر الحكمة: «فإن الله خلق الإنسان خالداً وصنعه على صورة ذاته» (الحكمة 2: 23). وسبب الخلود أو عدم الفساد هنا يرجع إلى روح الله الذي نفخه في الإنسان.
يقول القديس كيرلس الكبير في تفسيره على إنجيل يوحنا (7: 39): [فإن هذا الكائن الحي العاقل على الأرض، أعني الإنسان، قد خُلق منذ البدء في عدم فساد. وكان السبب في عدم فساده وفي بقائه في كل فضيلة، هو على وجه اليقين أن روح الله كان يسكن فيه. لأن الله نفخ في أنفه αὐτοῦ εἰς τὸ πρόσωπον نسمة حياة، كما هو مكتوب].
في العهد القديم:
لكن عندما أخطأ الإنسان الأول، وزاغ نسلُهُ سريعاً من وراء الله، قال الله: «لاَ يَدِينُ katamei,nh| رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ. لِزَيَغَانِهِ هُوَ بَشَرٌ» (تكوين 6: 3). أي لا يدوم أو لا يبقى روحي في الإنسان على الدوام. وهكذا فارق روحُ الله الإنسانَ.
وقرر الله أن لا يمكث روحه القدوس في الإنسان، وبالتالي لم يعد يحل الروح على الناس عامة، بل كان يرسل الله روحَه على بعض الملوك والأنبياء والقضاة في العهد القديم لتنفيذ مقاصده فحسب.
فقد حل روح الله على سبعين شيخاً من شيوخ بني إسرائيل، ليكونوا مساعدين لموسي النبي في قياده الشعب، وفي الفصل بين المنازعات، وليحملوا عن موسى ثقل الشعب، حتى يأتي الله بشعبه إلى أرض الميعاد (عدد 11: 16-18).
كما حل روح الله على بصلئيل بن أوري، وملأه بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعة، لاختراع مخترعات، ليعمل في الذهب والفضة والنحاس، ونقش حجارة للترصيع، ونجارة الخشب ليعمل في كل صنعة، لكي يتمم بناء خيمة الاجتماع (خروج 31: 2-5).
كما حل روح الله على شمشون ليقضي لبني إسرائيل ويخلصهم من أعدائهم (قضاة 14).
وأيضاً حل روح الله على داود، عندما مسحه صموئيل النبي: «فَأَخَذَ صَمُوئِيلُ قَرْنَ الدُّهْنِ وَمَسَحَهُ فِي وَسَطِ إِخْوَتِهِ. وَحَلَّ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى دَاوُدَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَصَاعِداً» (1صموئيل 16: 13). ولمعرفة داود النبي أنه من الممكن أن يفارقه روحُ الربِّ، كما فارق شاول الملك (1صموئيل 16: 14)، كانت صلاة داود الدائمة: «لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي» (مزمور 51: 11).
وهكذا حل روح الله على البعض من ملوك وقضاة بني إسرائيل، كما حل على أنبيائه، عندما دعاهم الله للحكم أو لإعلان كلامه، أو لإنقاذ شعبه من ظلم وجور الأمم المجاورة.
في العهد الجديد:
أما بعد أن حلَّ الروحُ القدس على الربِّ يسوع في المعمودية، فقد نالت البشرية كلُّها إمكانية أن يحل عليها الروح القدس. هذا ما تنبأ به يوئيل النبي (يوئيل 2: 29)، وما أعلنه القديس بطرس الرسول بعد حلول الروح القدس في يوم الخمسين: «يَقُولُ اللهُ: وَيَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ، أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً، وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَماً» (أعمال 2: 17).
ولم يعد حلول الروح القدس حلولاً مؤقتاً، بل أصبح سُكنى وإقامة ثابتة فينا: «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ me,nh| مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ» (يوحنا 14: 16)، «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَالْمَسْحَةُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ me,nei فِيكُمْ» (1يوحنا 2: 27).
يقول القديس كيرلس الكبير في تفسيره على نفس الآية (7: 39):
[لم يقبل المسيحُ الروحَ لنفسهِ هو، بل بالحري لنا نحن فيه، لأن جميعَ الخيرات إنما بواسطته تتدفَّق فينا نحن أيضاً. فنظراً لأن آدم أبانا الأول لما تحوَّل بالغواية إلى المعصية والخطيئة، لم يحفظ نعمةَ الروح، وبذلك فقدت أيضاً الطبيعةُ كلُّها فيه عطيةَ الله الصالحة. فكان لابد أن الله الكلمة الذي لا يعرف التغيير يصير إنساناً، لكي إذ يقبل العطية بصفته إنساناً يحتفظ بها بدوام لطبيعتنا… فقد صار الابنُ الوحيد إذن إنساناً مثلنا، لكي إذ يستعيد من جديد في نفسهِ أولاً الخيرات الصالحة، ويجعل نعمة الروح متأصلةً من جديد فيه، يتمكن بذلك أن يحفظها بثبات لطبيعتنا كلِّها… فكما أنه بتحوُّل الإنسان الأول قد اجتاز فقدان الخيرات الصالحة إلى سائر طبيعتنا، هكذا أيضاً أعتقد أنه بواسطة ذاك الذي لا يعرف التغيير، سيعود الثبات في اقتناء العطايا الإلهية إلى سائر جنسنا].