أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ
عندما أراد ربنا يسوع المسيح أن يوضح للمؤمنين باسمه، ما هو موقفهم من الوسط الذي يعيشون فيه، استعار صورةً معروفةً لدى جميعهم، فقال لهم: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ» (متى 5: 13).
كان للملح وظيفة أساسية معروفة للجميع، هي التطهير والحفظ من الفساد. تتضح هذه الوظيفة من أوامر الشريعة، أن تملَّح كل ذبيحة أو تقدمة للرب بالملح قبل تقديمها، وإلا لا تعتبر التقدمة طاهرة؛ فقد أمر موسى النبي الشعبَ قائلاً: «وَكُلُّ قُرْبَانٍ مِنْ تَقَادِمِكَ بِالْمِلْحِ تُمَلِّحُهُ، وَلاَ تُخْلِ تَقْدِمَتَكَ مِنْ مِلْحِ عَهْدِ إِلَهِكَ. عَلَى جَمِيعِ قَرَابِينِكَ تُقَرِّبُ مِلْحاً» (لاويين 2: 13).
وقد امتد مفهوم التطهير ليس فقط للذبائح والأطعمة المختلفة، بل كان للملح وظيفة طبية مطهرة أيضاً: «أَمَّا مِيلاَدُكِ يَوْمَ وُلِدْتِ فَلَمْ تُقْطَعْ سُرَّتُكِ, وَلَمْ تُغْسَلِي بِالْمَاءِ لِلتَّنَظُّفِ, وَلَمْ تُمَلَّحِي تَمْلِيحاً, وَلَمْ تُقَمَّطِي تَقْمِيطاً» (حزقيال 16: 4).
هذه الصورة المطهرة للملح هي ما قصدها الرب يسوع ليصف بها المؤمنين، فقد أوصاهم بحفظ العالم طاهراً نقياً من الفساد، بشرط أن يعيشوا هم أطهاراً قديسين، لتشع طهارتهم لكل من حولهم: «وَيُفْرِزُونَ أُنَاساً مُسْتَدِيمِينَ عَابِرِينَ فِي الأَرْضِ, قَابِرِينَ مَعَ الْعَابِرِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ بَقُوا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ. تَطْهِيراً لَهَا» (حزقيال 39: 14).
ولكن: «إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ» (متى 5: 13). أي إن نسي الإنسان المسيحي وضعه الإلهي، والبنوة التي وهبها له الله، والروح القدس الذي حلَّ فيه، والطعام السماوي الذي يغتذي عليه كل يوم، أي جسد الرب ودمه، فهل هناك وصايا أو شرائع أو قوانين وضعيه تستطيع أن تصلحه، أي هل هناك ملح أرضي يملح هذه الخليقة السماوية، الخليقة الجديدة؟
لقد أدرك الأبرار والصديقون أن من واجبهم أن يكونوا ملحاً للأرض ونوراً للعالم، فطلبوا من أبيهم السماوي أن يحلَّ فيهم، ليكون هو نوراً في داخلهم، يضيء لكل من حولهم، وملحاً يملِّحون به الآخرين، ليحفظوا أنفسهم وإياهم من الفساد. يبتهل مار إسحق لله قائلاً:
قدِّسني، يا ربُّ، بأسرارك، أَنِرْ ذهني بمعرفتك، واجعل رجاءك يشرق في قلبي، واحسبني أهلاً أن أتضرع إليك من أجله. يا الله، أبي ورب حياتي، أضئ مصباحك داخلي. ضع فيَّ ما هو لك، لكي أنسى ما هو لي. اسكب عليَّ هوة عَجبك، لكي تنضبط بـها قوة طبيعتي. حرِّك في داخلي رؤية أسرارك، لكي أدرك ما حلَّ بداخلي، في المعمودية المقدسة. لقد وضعتَ داخلي مرشداً، ليته يكشف لي مجدك كل حين. هيأني لأكون نوراً وملحاً للعالم؛ ليتني لا أصير عثرة لرفقائي (مار إسحق، الجزء الخامس، الميمر الخامس).