Monasticism and Christian Unity

الرهبنة والوحدة المسيحية

 

حضرات الآباء والإخوة والأخوات الحضور

منذ أول يوم عرف فيه العالم الرهبنة، كانت الرهبنة رمزاً للوحدة بين كنائس المسيح المتعددة. وجميعكم تعلمون أن الرهبنة نشأت أولاً على يد القديس أنطونيوس الكبير، المصري، وبعد أن كتب القديس أثناسيوس الرسولي سيرته، جذبت هذه السيرة الكثير من الشباب من الكنائس المختلفة. وكان أشهر من تأثر به القديس إيلاريون الذي أسس الرهبنة في فلسطين والقديس أغسطينوس الذي أسس الرهبنة في منطقة شمال أفريقيا.

وفي نفس عصر القديس أنطونيوس ظهر القديس باخوميوس أب الشركة في صعيد مصر، والقديس مقاريوس الكبير في صحراء أسقيط مصر، اللذان جذبا إليهما انتباه الكثير من المسيحيين من كافة بقاع الأرض، مثل القديس أرسانيوس من روما والقديس يوحنا كاسيان وروفينوس والقديس باسيليوس الكبير، وهكذا كانت الرهبنة في بداية ظهورها تربة خصبة لتلاقي المسيحيين من كافة بقاع الأرض، التلاقي والانسجام في الروح الواحد، والشعور بالوحدة في جسد المسيح مهما اختلفت اللغات والثقافات.

واستمرت الرهبنة في كافة عصورها لا تعرف معنى التفرقة بين الكنائس المختلفة، ففي كافة التجمعات الرهبانية القديمة، والحديثة على حد سواء، انتشرت كتابات القديس أنطونيوس وعظات القديس مقاريوس المصري، وأقوال آباء برية مصر، وقوانين القديس باسيليوس الكبير من كبادوكية، وكتابات مار اسحق السرياني من الكنيسة الأشورية، وكتابات برصنوفيوس ويوحنا الدلياتي والدرجي.

وفي العصر الحديث ومع بدء انفتاح الكنائس على بعضها البعض، بدأت كتابات وسير قديسي جبل أثوس مثل القديس سلوان، وقديسي الكنيسة الروسية، مثل القديس صاروفيم، وقوانين القديس بندكت وسيرة وأعمال القديس فرنسيس والقديسة تريزا الأفيلية والقديسة تريزا الطفل يسوع تجد انتشاراً في الأوساط الرهبانية عامة.

وسوف ألقي الضوء على تجربة عشتها بنفسي في دير القديس أنبا مقار بوادي النطرون بالكنيسة القبطية، ولمست فيها كيف يمكن أن تلعب الرهبنة دوراً هاماً في الوحدة المسيحية، بعيداً عن الحوارات الرسمية واللقاءات الرئاسية.

فمنذ أن ترهب الأب متى المسكين، وبدء ظهور كتاباته، خاصة كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية، الذي ذكر فيه كتابات وسير قديسين من كافة الكنائس وذلك لأول مرة في الكنيسة القبطية، حتى جذب إليه أنظار الرهبان من كافة كنائس المسكونة؛ وصارت هناك صداقة وعلاقة محبة بين دير القديس أنبا مقار والكثير من أديرة الآباء البندكتيين والسيسترسيان وأيضاً الرهبنات الخادمة مثل الدومينيكان والجزويت والفرنسيسكان، سواء داخل مصر أو خارجها. ولأول مرة يأتي الكثير من رهبان هذه الأديرة ليقضوا فترات خلوة روحية داخل دير أنبا مقار، ومن ثم حدث تبادل للخبرات الروحية بين الرهبنة الشرقية والرهبنة الغربية.

فتح دير القديس أنبا مقار بابه أمام الآباء الكاثوليك بمصر، واعتاد رهبان تلك الأديرة قضاء فترة التدريب الروحي في هذا الدير، مع إقامة صلاة القداس الإلهي في إحدى كنائسه. كما تأسست علاقة خاصة بدير الآباء البندكتان بشيفتوني، وقد اعتاد الأب المتنيح عمانوئيل لان، على قضاء شهر كامل من كل عام، على مدى أربع وثلاثين سنة متواصلة، في هذا الدير، وكذلك الأب أوجو زانتي الذي قضى أوقاتاً طويلة في الدير، وقد قام بمجهود كبير في إعداد كتالوج مخطوطات هذا الدير.

وتم تبادل الزيارات بين رهبان دير أنبا مقار ورهبان دير سولام Solesmes ثم رهبان دير بيلفونتن Bellefontaine وقد نتج عنها نشر خمس مجلدات من كتابات الأب متى المسكين مترجمة إلى الفرنسية في مجموعة Spiritualité Orientale الأمر الذي جعل مؤلفاته معروفة ومقروءة في معظم أديرة الرهبان والراهبات الناطقة باللغة الفرنسية، كما نتج عنها تبادل المنشورات الرهبانية مع دير أنبا مقار مثل مجموعة Spiritualité Orientale التي ينشرها دير Bellefontaine ومجلات Collectanea Cisterciensia  and Cistercian Studies and Irénikon

كما تأسست علاقة محبة أخوية شبه رسمية بين دير القديس أنبا مقار والدير المسكوني ببوزى، ذلك الدير الذي دعا هذا العام لمؤتمر عالمي إحياء للذكرى العاشرة لرحيل الأب متى المسكين، كما أنه قام بمجهود مبارك في ترجمة الكثير من أعمال الأب متى المسكين للإيطالية. وسوف يقوم دير القديس أنبا مقار برسامة راهب قبطي أورثوذكسي في دير بوزى، بمباركة قداسة البابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وذلك لزيادة الروابط بين الديرين، وبالتالي بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة القبطية.

ومن الملفت للنظر أنه بعد أن اعتلى البابا تواضروس كرسي القديس مار مرقس في مصر، كانت أول زيارة له إلى الفاتيكان، وقد اصطحب في الوفد المرافق له أحد رؤساء الأديرة بالكنيسة القبطية، كما قام قداسته بزيارة الكثير من الأديرة في إيطاليا، ليس كمزارات سياحية، بل كانت زيارته تتسم بالجلوس مع رهبان تلك الأديرة وإجراء حوارات كثيرة رهبانية معهم، وقد تطورت بعض هذه الحوارات لموضوع الوحدة الكنسية التي ننشدها بين كنائس المسيح المختلفة. وقد تكرر هذا الأمر مع رهبان الأرثوذكسية بروسيا، وتم توقيع اتفاق للتعاون المشترك بين أديرة مصر وأديرة روسيا.

هذا مثال صغير لدير واحد في مصر استطاع أن يقيم علاقات روحية مع الكثير من الأديرة دون اللجوء للحوارات والمجادلات اللاهوتية، وعلى مثاله أعتقد أن هناك الكثير من الأديرة في الشرق والغرب التي لها نفس هذه الخبرة، فالروحانية الرهبانية منذ بدايتها في القرن الثالث الميلادي لم تعرف الحواجز ولم تؤمن بالحوارات الفلسفية، بل كان اهتمامها بالأكثر بالوحدة الروحية بين كافة الرهبان، ولعل تواجدي بينكم اليوم لهو ثمرة من ثمرات المحبة الروحية بعيداً عن الجدل اللاهوتي. أتمنى أن يأتي اليوم الذي ترتفع فيه الحواجز نهائياً بين الأديرة المسيحية، فربما يكون هذا دافعاً للكنيسة كلها أن تسير على نفس النهج، لتتحقق رغبة الرب يسوع: لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي (يو 17: 21).

 

اضغظ هنا للتحميل