الوديع
الأنبا إبيفانيوس
بقلم نيافة أنبا باخوميوس
مطران البحيرة والخمس المدن الغربية
ورئيس دير القديس مكاريوس السكندري بجبل القلالي
يعزُّ علينا يا أحبَّائي رحيل أبينا الحبيب الشهيد الراهب الوديع الذي يتحلى بالكثير من الفضائل الرهبانية. لقد سعدتُ بالتعرُّف عليه بعد سيامته أسقفًا وكانت لنا لقاءاتٌ متعددة. قمتُ بزيارته بدير القديس مقاريوس الكبير، وكان يُمتِّعنا بزيارته لدير القديس مكاريوس السَّكندري بجبل القلالي، وكانت اللقاءات كلها مليئةً بالفكر الروحانيِّ والشوق إلى النموِّ الرهباني. وكنتُ أرى فيه وأتعلَّمُ منه الوداعةَ الحقيقيةَ التي أوصانا الربُّ يسوعُ أن نتعلَّمها منه ’’تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب‘‘ (مت 11: 29). حقًّا من يسلك في وداعة السيد يعيش في سلام. كان وديعًا في كلماته فهي مليئةٌ بالتعاليم الروحية والفكر الرهبانيّ العميق وكان في كلماته اشتياقاتٌ أن نُرجع الرهبنة إلى سابق عهدها في حياة الآباء الكبار، وكان منهجُهُمْ يملأُ قلبه، واشتياقاتُه لحياة الرهبنة الحقيقية تملأُ مشاعرَه وفكرَه وحديثَه.
كان لا يصيحُ ولا يسمعُ أحدٌ صوتَهُ فكان يتمسَّكُ بقول الآباء «صوت هين» في كلماته وصوته وكان يمتلئُ بالوداعة. كنَّا ندعوه للمشاركةِ في تكريس الآباء الجدد بالدير ببريَّة القلالي، فكان في محبَّةٍ كاملةٍ ووداعةٍ غير محدودة، يأتي مبكِّرًا إلى الدير متحمِّلًا مشاقَّ الطريق والظلامُ باقٍ ويشاركُ بالقلبِ والخدمةِ والكلمةِ مشجعًا الآباءَ الجدد على ضرورةِ السلوك الرهبانيّ، وكنا في أحاديثنا عن شوقنا إلى حياة الرهبنة يُعلِّم بوداعةٍ عميقةٍ بأننا يجب أن نلتزم بفكر الآباء. كان يعرف ويُعلم بضرورة نقاوة الفكر وضرورة كشفه والمواظبة على اللجوء إلى الآباء شيوخ البريَّة ومعلميها لنتعلَّم كيف نتناول باتضاع منهم تعاليم الآباء الكبار.
كان نيافته يعيش حياة ناسكة في قلايته، في مأكله، وفي مسكنه. وأثاث قلايته يتميز بالبساطة الكاملة وكان يَضَعُ نفسه قدوةً لأبنائه لمن يريد أن يحيا حياة الرهبنة السليمة ويكون له شركة معهم في المجد. أذكره في لقائنا معه يشتاق أنَّ الحياة الديرية الأولى التي عاشها الآباء الكبار تكون لنا منهجًا نقتدي به ليس فقط من أجل أنفسنا ولكن أيضًا لنقدِّم لأبنائنا وإخوتنا محبي البراري والخلوة والرهبنة نموذجًا يقتدون به في حياتهم الرهبانية. كان وديعًا في قيادته الرهبانية شكلًا وعملًا فقد كان نموذجًا للأب الأسقف الوديع البسيط في ممارساته ومظهره وتوجيهه. كان لا يحتمل أن يحيدَ أحدٌ عن مبادئ الرهبنة السليمة، فكان يُعلِّم ويوجِّه بوداعةٍ، ومع حزمه وتدقيقه في السلوك الرهباني الديري إلا أنه كان وديعًا في ذلك.
من أجل هذه الوداعة اختارته نعمةُ اللهِ ليكونَ أبًا للدير المبارك العظيم في الرهبنة دير القديس مكاريوس الكبير الذي يتطلَّع إليه العالمُ كأحدِ أعمدةِ الرهبنةِ الأولى. لقد اختارته النعمةُ الإلهيةُ لأبوةِ هذا الدير لكيما يحافظ على المناهج الرهبانية النسكية الروحية السليمة. وكان يجاهد في وداعةٍ من أجل هذا وإن كان لا يستريحُ لذلك البعضُ غير الملتزم بالفكر الرهباني إلا أنه كان لا يتوانى عن أن يتحدث بوداعةٍ ويعظ بعمقٍ ويُعلِّم بحزم الوداعة أنه ’’ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟‘‘
لقد عاش مَعَنَا وبَيْنَنَا ورأينا فيه أبًا روحيًّا عميقَ الفكر، نقيَّ السلوك، وديعَ القدوة، متمسِّكًا بالحياة الرهبانية التي من أجلِهَا صار شهيدًا. وتبقى سيرتُه نموذجًا لحياةِ الشهادةِ للمحافظة على الفكر الرهبانيِّ السَّليم ’’التخلي عن الكل للارتباط بالواحد‘‘، تعليم ضرورة الارتباط بالأب الروحي للدير وطاعته في اتضاعٍ لكيما يحفظ الإنسان نفسه من خطايا العالم والسلوك الرديء الذي يُفقد الإنسان أبديَّتَهُ ويكون عثرةً في حياة الآخرين بل ألمـًا للكنيسة كلها.
لقد تألَّمْنَا كثيرًا برحيل حبيبنا المتنيح الشهيد القديس الأنبا إبيفانيوس، لكن نتعزَّى أن نعلم أن له نصيبًا في أحضانِ القديسين، وأنه عاش مقتديًا بمن أحبَّهم وصار معهم الآن. وتكون سيرته نموذجًا لنا نقتدي به في الكنيسة فَيَجِبُ أن نكونَ أمناءً في سيرتنا الرهبانية ونتمسَّك بتعاليم الآباء فنعيشها في تدقيقٍ كاملٍ ولا نفقد وداعتنا التي في المسيح، ونحافظ على سيرتنا الرهبانية إلى مدى الأيام مهما كانت التكلفة.
الرب يحفظ كنيستنا وتراثها الرهباني الثمين، ولنُدقِّق في حياتنا كيف نسلك بحسب التدبير الرهبانيّ السَّليم، بَاذِلِينَ كلَّ ثمينٍ ورخيصٍ من أجل المحافظة على هذه السيرة مهما كانت التكلفة، لنكون غيرَ مُلامين أمامَ الربِّ وقديسيه.
ببركة وصلوات الآباء الكبار والعظام في الرهبنة
وقداسة أبينا الحبيب البابا تواضروس الثاني
وجميع الآباء الأحبار المباركين.
ولربِّنا المجد الدائم آمين.