بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد. آمين.
تحل علينا رحمته ونعمته، ورحمته تعزينا جميعًا.
لقد كان بالحقيقة أسقفًا منيرًا ومضيئًا لكل مَن حوله. رغم الألم الذي يعتصرنا جميعًا، ويعتصرني أنا شخصيًّا، إلَّا أننا على رجاء القيامة نودِّعه، كما تُعَلِّمنا كنيستُنا الأرثوذكسية عندما نودِّع أحباءنا.
إننا أمام هذا المصاب الجَلل، لا يهتز إيمانُنا بالله ضابط الكل، فالله يضبط هذه الحياة، وليس شيءٌ بعيدًا عن هذا، وليس إنسانٌ بعيدًا عن هذا. بل نعيش في قمة هذا الإيمان وفي عمقه. نؤمن أنه يضبط حياتنا بكل تفاصيلها، ويضبط ميلادنا، ويضبط رحيلنا أيضًا من هذه الحياة. نؤمن أيضًا أنه صانع الخيرات، فالله هو الذي يصنع الخير في كل حين وفي كل صباح، هو الذي يصنع الخير، ويصنع الخير للجميع؛ للأبرار وللأشرار، يُظْهِر شمسه على الأبرار وعلى الأشرار، على الصديقين وعلى الخطأة. ونؤمن أيضًا أنه محب للبشر، وحتى الخطأة فينا هو يحبهم. هو يحب كل إنسان، وإن كان لا يحب الخطية، ولكنه يحب الإنسان لعله يتوب. يحب الإنسان الخاطئ لعله يتوب، ولعله يستيقظ قبل فوات الأوان.
نيافة الأنبا إبيفانيوس، أخونا الحبيب الذي غادرنا بهذا الرحيل المفاجئ، كنَّا نرى فيه نموذجًا مشرقًا. وكما استمعتم في الصلوات أنه كوكبٌ مضيءٌ، استضاءت به المسكونة. وهذه الكلمات بالحقيقة تنطبق عليه، هو كوكب مضيء بالحقيقة، وقد استضاءت به المسكونة أيضًا بالحقيقة، في كل مكان وصل إليه وخدم فيه.
في حياة نيافة الأنبا إبيفانيوس نتعلم الكثير والكثير. أود أن أضع أمامكم ثلاث صفات واضحة:
كان يمتاز بوداعة الحكمة، وكان يمتاز بغزارة المعرفة، وكان يمتاز أيضًا ببساطة الحياة. في الواقع، هو أول أسقف سمحت العناية الإلهية أن يُقام في زمننا هذا.
وداعة الحكمة
كان يمتاز بوداعة الحكمة. عندما تراه أو تتكلم معه، أو تراه حتى صامتًا، تشعر بهذه الوداعة الشديدة والوداعة الأصيلة، والتي تلف الحياة كلها. حتى في صمته وفي ابتسامته المريحة كان وديعًا. في آرائه كان وديعًا، دائمًا يطلب السلامة، ودائمًا يبحث عن سلام الكنيسة وسلام الدير وسلام الحياة وسلام كل الموجودين. لم تكن الوداعة مجرد صفة، ولكنها كانت ملتحفة أيضًا بالحكمة. كان حكيمًا عندما تناقشه، فخبرته الطويلة كانت تعطيه هذه الحكمة، فضلًا عن كونها نعمة من الله. كان حكيمًا، حتى عندما كنت أطلب منه أن يحضر بعض اللقاءات أو يشترك في بعض اللجان، فكان حكيمًا حتى في اختيار اللجنة، اختيار أعضائها، اختيار مَن سيتكلمون فيها، هل سيكون هو موجودًا أم لا. كان حكيمًا، وكان رأيه دائمًا صائبًا. الحقيقة كنت أسترشد به كثيرًا في القرارات التي كنت أتخذها. ووداعة الحكمة، يا إخوتي الأحباء، صفة نادرة في هذا الزمان، قد توجد الوداعة ولكن بلا حكمة.
الصفة الثانية التي كنت أراها فيه باستمرار، وأنا لم أكن أعرفه من قبل إلَّا عندما اختاره آباءُ هذا الدير العامر؛ الشيوخ والرهبان فيه، عندما اختاروه ورشحوه لكي ما يكون أسقفًا، وكان ذلك في فبراير ٢٠١٣م. وقد حصل هو وأبٌ راهبٌ آخرُ على أعلى الأصوات، وكان الدير فرحًا به جدًّا، وربما تتذكرون معي جميعًا، والآباء الأساقفة يتذكرون معي، يوم تجليسه كيف كان يومَ فرحٍ.
غزير المعرفة
الصفة الثانية فيه أنه كان غزير المعرفة، وهذه الكلمة بالحقيقة تنطبق عليه. لم تكن معرفته سطحية. في كل محاضراته وفي دراساته وفي أبحاثه، وفي المخطوطات التي قام بتحقيقها، كان عميق المعرفة. وكنتُ أكلِّفه كثيرًا بحضور بعض المؤتمرات ويمثِّل فيها الكنيسة، وكان كوكبًا مضيئًا. عبر هذه السنوات الخمس وعدة شهور، كلَّفتُه بأكثر من عشرين مؤتمرًا يحضرها على مستوى العالم. وكانت هذه المؤتمرات هي مؤتمرات يمثِّل فيها وجه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وجه كنيسة مصر. وكان وجهًا مشرقًا، وبالحقيقة استضاءت بمعرفته المسكونةُ. فهذا ليس كلامًا مجرَّدًا أو مديحًا، ولكنه واقعٌ. كان غزير المعرفة. عندما كنا نقيم لقاءاتٍ وحلقاتٍ دراسية للآباء الرهبان والأمهات الراهبات، كان يشترك ويلقي محاضرات، وفيها يتعلم الآباءُ الكثير منه، ويسألونه، ويساعدهم ويرشدهم ويجاوبهم على كل الأسئلة. جعل المعرفة كأنها في متناول كل أحد. ليست الأسقفية، يا إخوتي الأحباء، مجرد اسم أو لقب، ولا لبس ولا منظر. الأسقفية قامة روحية، وقامة علمية، وقامة دراسية. وكان أخونا الحبيب بالحقيقة نموذجًا وقامة، ويحتل هذه المكانة أمام كنائس العالم، وكان يشرِّف الكنيسة القبطية. غزارة المعرفة أنتج من خلالها عدة كتب وقام الدير بطبعها؛ كتب متنوعة، إن كانت في الدراسات الطقسية كالقداس الكيرلسي، إن كانت في المجالات الكتابية كسفر التكوين – وأنا لا أحصر ولكن أذكر أمثلة – وبعض المخطوطات التي نجح في تحقيقها. وعندما زرتُ هذا الدير بعد سيامته بسنة كاملة يوم 10 مارس ٢٠١٤م، وقضيتُ يومًا أتذكره بكل خير في رحاب الآباء الأحباء، وصلينا معًا وسبَّحنا معًا، وكان حاضرًا معنا وقدَّم ستة من الآباء لسيامتهم كهنة. وقمتُ مع الآباء بزيارة هذا الدير العامر ومكتبة المخطوطات وكل المواضع المقدسة فيه، فهذا الدير نفتخر أنه أحد أديرتنا القبطية الأرثوذكسية. كان غزير المعرفة، وقلَّما نجد هذا النوع من الآباء.
بساطة الحياة
الأمر الثالث أنه رغم وداعة الحكمة ورغم غزارة المعرفة، إلَّا أنه كان يتمتع ببساطة الحياة. قلايته تشهد على ذلك، ملبسه يشهد على ذلك، طعامه يشهد على ذلك. كان بسيط الحياة جدًّا، حتى في حضوره في بعض اللقاءات، سواء في مصر أو خارج مصر، دائمًا يأخذ المتكآت الأخيرة. كان بسيطًا في حياته، وحتى في تعاليمه كان بسيطًا. لم يضع الأمور الصعبة ولا المصطلحات الصعبة، ولا الكلمات التي تجعل المستمع لا يفهم. كان بسيطًا حتى في إجاباته على الأسئلة عندما كانت تُطرح عليه، أسئلة من الشباب أو من الآباء في أي مناسبة. كان يختار إجابات بسيطة وسهلة. والبساطة في الإجابة هي عمق، لأن الشخص يفهم ويعرف ويشبع.
نيافة أنبا إبيفانيوس خسرناه بالحقيقة، ولكن – كما هو اسمه مستمد من النور – فهو بالحقيقة كان نورًا في وسط مجمعنا المقدس، وصورته ومثاله واسمه سيظل خالدًا. وطوبى لهذا الدير الذي أنجب هذه الشخصية المباركة. طوبى لهذا الدير الذي له تاريخ القرون، وعاش فيه القديسون، وعاشوا ونهجوا النهج الروحاني، ومجدوا الله بحياتهم، ولهم سير حسنة عبر التاريخ، نقرأ فيها عبر تاريخ القرون. فطوبى لذلك الدير الذي أنجب مثل هذا الأسقف الذي استضاءت به المسكونة. أنا أشهد أمام الله وأمامكم أنه كان النموذج الرفيع في المعرفة وفي الحياة الروحية وفي القامة الروحية. لقد تخرج من كلية الطب، وكان في عمله كطبيب، وقبله كطالب، إنسانًا متميزًا، ودائمًا هادئًا. وفي وسط أسرته المباركة جعلته مرتبطًا بالكنيسة منذ نعومة أظافره. وعندما جاء الوقت وهو في عمر الثلاثين دخل إلى الدير، وتتلمذ على الشيوخ والآباء، وصار محبوبًا ومحبًّا بينهم. وبعد ما يقرب من ثلاثين سنة من وجوده في الدير اُختير للأسقفية برغبة الآباء الأحباء هنا في هذا الدير، وصار أسقفًا، وصار عضوًا في مجمع كنيستنا المقدس. ورغم أن أسقفيته لم تدم إلا خمس سنوات وعدة شهور قليلة، إلَّا أنه قدم لنا رسالة حية، وبالحقيقة ينطبق عليه: ’’ما هي حياتكم؟ إنها بخار يظهر قليلًا ثم يضمحل.‘‘ هذه هي الحياة.
إن لم نتعزَّ ونتعلم من هذا الإنسان الملائكي الطابع، الذي أهدته لنا السماء وجعلته كالمنارة منيرًا، إن لم نتعزَّ ونتعلم ويكون نموذجًا أمامنا، فسوف نخسر كثيرًا. هو حضر بيننا كأسقف، وطبعًا كان في الدير بنفس هذه الصفات الجميلة. ولكن عندما صار أسقفًا، صار في الكنيسة كلها، وزار زيارات كثيرة. وفي كل مكان حلَّ فيه، حلَّت فيه النعمة، وحلَّت فيه البركة، وحلَّت فيه الفرحة، وحلَّت فيه الروحانية والرهبانية الحقيقية. الرهبنة، يا آبائي الأحباء، قامة روحية، ويجب أن تكون، وهذه مسئوليتنا جميعًا أن تكون الرهبنة لامعة، نموذجًا لامعًا.
إن كنَّا نتعرَّض لهذا المصاب الجَلَل، الذي اهتم به كلُّ العالم، وعزتنا هيئات عالمية وهيئات دولية، مثل مجلس الكنائس العالمي وهيئة برو-أورينتا والمجالس الإقليمية المسيحية، وهنا الكنائس المصرية والهيئات والمسئولون، كلٌّ في مسئوليته، تَعَزَّيْنَا بحضورهم وبكلماتهم؛ ولكن رحيله وهذا المصاب الذي أصاب كنيستنا وأصاب ديرنا ليس يسيرًا، ولكنني كما قلت في بداية كلامي أننا نؤمن بالله ضابط الكل.
طوباك أيها الأسقف المبارك، طوباك، حللت بيننا وقدمت لنا نموذجًا رفيعًا وحضورًا بهيًّا، وتعلمنا منك الكثير رغم أن حضورك كان قصيرًا، ولكننا تعلمنا منك الكثير، وكنت رسالة واضحة لنا جميعًا.
أدعوكم يا إخوتي أن تتعلموا من سيرته، وتتعلموا من كتاباته، وتتعلموا من شخصه. لقد اُختُطِف من بيننا، وصار كالزهرة النيرة التي توضع في مكان متميز، فصار في السماء، صار في السماء حيث معية الله، وحيث صحبة القديسين والأبرار، وحيث الفرح السماوي والسلام السماوي، وحيث البعد عن كل هموم الأرض وكل أتعاب الأرض وكل أطماع الأرض. أيها الإنسان، ماذا ستجني؟ ستجني التراب! مهما حصلت، ومهما تفتق ذهنك عن أفكار وعن شهوات، ماذا ستجني؟ لن يكون في النهاية سوى تراب الأرض. ولذلك، هذا الأسقف المبارك أعطانا عظة كاملة بحياته، وعلمنا كيف أن الحياة في لحظة تنتهي. فلنتب يا إخوتي، فلنتب بالحقيقة، لأننا عندما نقف أمام الله لن نجد ما نقوله إلا بتوبتنا. هذا النداء يقدمه لنا أخونا الحبيب ونحن نودعه. هو مات بالحقيقة، ولكنه عائش في قلوبنا. فالذين نحبهم لا يموتون، بل يعيشون في قلوبنا، ويعيش في ذاكرة الكنيسة، وفي ذاكرة الدير، وفي ذاكرة الأحباء الذين تعاملوا معه وتعامل مهم. يعيش ويصير لنا شفيعًا ومصليًا من أجل ضعفنا ومن أجل آلامنا، يصلي من أجلنا في السماء، ويذكر هذا الدير الذي تربَّى فيه ونهل منه، ويذكر الكنيسة التي أنجبته، ويذكر أسرته المباركة التي عاش فيها وتعلَّم منها.
إننا، يا إخوتي الأحباء، رغم مرارة الألم الذي فينا ومشاعرنا الداخلية، هذه المشاعر التي في داخلنا، إلَّا أننا نرفع قلوبنا إلى السماء، فنرى السماء متسعة، ونرى أن السماء تستطيع أن تطيِّب خاطرنا، ونرى يد الله وهي تمتد لتعزينا جميعًا.
طوباك أيها الأسقف المبارك، وطوبى لرهبنتك ولأسقفيتك وكهنوتك وخدمتك، وطوبى للنموذج الذي قدمته.
نشكر كل الأحباء الذين عزونا وشاركونا هذا الألم، ونشكر آباء الدير الأحباء، الذين أرجو لهم السلام الحقيقي في قلوبهم. أنتم آباء رهبان تنتمون إلى دير القديس العظيم مكاريوس الكبير، ولا تنتمون إلى أي أحد آخر. أنتم أبناء وأحفاد هذا القديس العظيم، برِّية الإسقيط، إسقيط مكاريوس، لا تنتمون إلى أي أحد آخر. وعندما دخلتم إلى الدير، وصار بينكم شيوخ لهم قامات روحية، وصار توالي للأجيال، الجميع ينتمي إلى أب الرهبنة الكبير القديس مكاريوس العظيم. اِحفظوا سلامكم، واحفظوا رهبنتكم، وأَخْرِجوا منكم أيَّ انحرافٍ بعيد عن هذه الرهبنة. الرهبنة أمانة في حياة كل منَّا، كل الذين يعيشون (في الدير) وكل الذين تخرجوا في خدماتهم من أديرتهم. الرهبنة أمانة في يد كل أحد. فلتحفظوا السلام والهدوء والمحبة بينكم، ولتطردوا كل ضعفاتكم.
ليحفظكم المسيح، وليحفظنا المسيح جميعًا في مراحمه، وليذكرنا هذا الأسقف المبارك في صلواته وتشفعاته أمام الله ليكمل أيام غربتنا بسلام. لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد آمين.
البابا تواضروس الثاني
بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية