أحبنا إلى المنتهى
أحبنا إلى المنتهى
أراد ربُّنا يسوع المسيح أن يهيئ عقولنا وقلوبنا لقبول سرِّ آلامه وقيامته، فقال في وصيته الأخيرة لتلاميذه: «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا 15: 13). وكان القديس يوحنا قد ذكر قبل حديث الرب هذا، أن الربَّ يسوع قبل عيد الفصح، «وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى» (يوحنا 13: 1).
إن قصة آلام ربنا يسوع وقيامته من بين الأموات تتلخَّص في كلمةٍ واحدةٍ: الحبّ. ليس الحب العاطفي الذي يعرفه العالم، أو الحب الجسدي، بل الحب بمفهوم البذل والعطاء. وهل تعرف المسيحية معنىً آخر للحبِّ؟ لقد علَّمنا الربُّ يسوع: «أَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ» (يوحنا 3: 16).
لقد كان الربُّ يعرف أن هناك وصايا كثيرة تحضُّ الناس على المحبة، سواء وصايا من العهد القديم، مثل وصية: «لاَ تَنْتَقِمْ وَلاَ تَحْقِدْ عَلَى أَبْنَاءِ شَعْبِكَ، بَلْ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ» (لاويين 19: 18)، أو وصايا كتبة ومعلمي الناموس. لكنه عندما أعطى لنا وصية المحبة، دعاها وصيةً جديدةً، لأنه أعطاها معنىً جديداً، معنىً نابعٌ من الصليب والقيامة: «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً». ثم فسَّر سبب أنها وصية جديدة: «كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (يوحنا 13: 34).
لم يعد معنى المحبة ينحصر في أنه يجب ألا ننتقم أو نحقد على قريبنا، أو حتى نحبه كنفسنا، بل أن تكون المحبة على نفس مستوى محبة المسيح لنا، محبة البذل والعطاء حتى الموت.
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم، في عظته على العناية الإلهية (17: 1-7):
[أليس القديس بولس في كل مناسبة يُظهر لنا موت المسيح كأعظم دليل لحبه لنا؟ فيقول: «الله بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية 8:5). ثم أليس بذلك يفتخر ويتسامى ويتهلّل وكأنه يطير من شدة الاشتياق، كاتباً لأهل غلاطية: «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (غلاطية 6: 14)؟ بل إن المسيح نفسه الذي احتمل هذه الآلام يدعوها مجداً له! (يوحنا 17: 1). وحينما أراد أن يبيِّن لنا حبّه فماذا ذكر؟ هل آياته ومعجزاته وعجائبه؟ لا أبداً! بل رفع صليبه في الوسط قائلاً: «هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ» (يوحنا 3: 16). وحينما يدعو إلى المحبة يُحضر هذا المثال أيضاً في الوسط قائلاً: «كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضاً، وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أفسس 5: 2)].