الدخول إلى النعمة
عندما سقطت البشرية، وتغربت عن وجه الله، كان لا بد أن يعيد الله نفسُه شركتنا ومصالحتنا معه من جديد، ويشرح معلمنا بطرس الرسول الكيفية التي بها تمت مصالحتنا مع الله الآب، قائلاً: «فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ، مُمَاتاً فِي الْجَسَدِ وَلَكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ» (1بطرس 3: 18).
«لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ» الفعل يقربنا الوارد هنا، والاسم منه الذي تُرجم الدخول أو القدوم، هو فعلٌ طقسيٌ بالدرجة الأولى. وقد استُعمل هذا الفعل عدة مرات في العهد القديم (الترجمة السبعينية) بهذا المفهوم. أولاً في تقريب الذبائح لله: «وَيُقَرِّبُ مِنْ ذَبِيحَةِ السَّلاَمَةِ وَقُوداً لِلرَّبِّ» (لاويين 3: 3)؛ وثانياً: في تقريب الأشخاص أو تقديمهم لله: «وَتُقَدِّمُ هَارُونَ وَبَنِيهِ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ» (خروج 29: 4).
هذا المعنى الأخير في تقريب الأشخاص يُستعمل أساسًا بمعنى الوساطة، أي يجب أن يكون من يقدِّم شخصًا لآخر أن يكون له علاقة شخصية وثيقة بكلا الطرفين، وإلا تمتنع الوساطة. هذا المعنى واضحٌ جداً على لسان القديس بولس: «فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. الَّذِي بِهِ أَيْضاً قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ إِلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ» (رومية 5: 1-2). فلولا أن الرب يسوع هو واحد مع الله من جهة اللاهوت، وواحد معنا من جهة الناسوت، ما أمكن أن يكون لنا هذا الدخول إلى النعمة التي نحن فيها مقيمون الآن، أو التواجد أو القدوم أمام الله: «لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ… الَّذِي بِهِ لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ بِإِيمَانِهِ عَنْ ثِقَةٍ» (أفسس 2: 18؛ 3: 12). يقول القديس كيرلس الكبير في حواره الأول عن الثالوث:
[إن الله الكلمة قد أهبط نفسه إلى الإخلاء دون أن يضطره أحدٌ إلى ذلك، بل بمشيئته الخاصة وحسب مسرة الآب صار إنساناً، وبينما هو محتفظ تماماً بصفات طبيعته الخاصة بلا نقصان ولا تغيير، قد اقتنى لنفسه الناسوت بحسب التدبير، فهو يُعتبر ابناً واحداً من اثنين، إذ قد اجتمعت واتحدت معاً في شخصه الواحد، بطريقة لا توصف ولا تُفحص، الطبيعتان الإلهية والبشرية، لتُكوِّنا معاً وحدةً بطريقة لا يمكن تصوّرها… فهو إله، وهو أيضاً بعينه وبآن واحد إنسان… فلهذا السبب أيضاً هو يُعتبر وسيطاً (بين الله والناس)، لأن الاثنين اللذَين كانا بحسب الطبيعة متباعدَين جداً عن بعضهما، إذ كانت تفصل بينهما هوةٌ بلا قياس، أعني اللاهوت والناسوت، قد أظهرهما مجتمعَين ومتحدَين في نفسه، وبذلك ربطنا بواسطة نفسه مع الله أبيه].