الراهب والدينونة
الراهب والدينونة
383 – من كتاب الدرجي: سمعتُ نمَّامين، فلما زجرتُهم قالوا لي بأنهم لا يفعلون شراً، وإنما يفعلون ذلك محبةً وشفقةً على أولئك الذين يتكلَّمون في حقِّهم. أما أنا فقلتُ لهم: «ليست هذه محبةً، لكنك إن كنتَ تُحبُّه حقًّا، فَصَلِّ من أجلهِ خُفيةً ولا تَهْجُ أو تَسُبَّ أحداً» (س5: 82ج) (John, Ladder, X, 4).
385 – وقال شيخ: «إن شئتَ معرفةَ الطريقِ فعليك بأن تعتقدَ في ضاربك كاعتقادِك فيمن يحبُّك، وفي شاتمك كمن يمجِّدُك، وفي ثالبك كمن يكرِّمُك، وفي مُخزيك كمن ينيِّحُك» (س5: 82ج).
386 – وقال آخر: «إن لم يكن قد صار عندك الامتهانُ كالإكرام، والخُسرانُ كالربح، والغربةُ كالقرابة، والعَوَزُ كالفضيلة، فامضِ واعمل ما شئتَ» (س5: 82ظ).
387 – وقال آخر كذلك: «إن لم يعتقد الإنسانُ فيمن يظلمه كاعتقادِه في الطبيبِ، فإنه يظلم نفسَه ظُلماً عظيماً. فسبيلُك أن تتذكر من يظلمك كتذكُّرك طبيباً نافعاً لك، مُرسَلاً من قِبل المسيح إليك كما يلزمُك أن تتألم من أجلِ اسمِهِ» (س5: 82ظ).
389 – لأجل الدينونةِ قال القديسُ دوروثاؤس: إنه لا شيءَ أردأ من الدينونةِ للإنسان، لأنّ بسببها يتقدم إلى شرورٍ ويسكن في شرورٍ، فمن دان أخاه في قلبهِ وتحدث في سيرتهِ بلسانهِ، وفحص عن أعمالهِ وتصرفاتهِ، وترك النظرَ فيما يُصلِح ذاتَه، وانشغل عما يلزمُه بما لا يلزمُه من الأمورِ التي ينشأ عنها الازدراءُ والنميمةُ والملامةُ والتعيير، فحينئذ تتخلى المعونةُ الإلهية عنه، فيسقط فيما دان أخاه عليه. أما النميمةُ فتصدر من ذاك الذي يخبر بما فعله أخوه من خطايا شخصية، فيقول عنه إنه فعل كذا وكذا. وأما الدينونة، فبأن يخبر بما لأخيه من خُلقٍ رديء، فيقول إنه سارقٌ أو كذاب أو ما شابه ذلك، فيحكم عليه بالاستمرار فيها وعدم الإقلاع عنها. وهذا النوع من الدينونة صعبٌ جدًّا، ولذلك شبَّه ربُّنا خطيةَ الدينونة بالخشبة، والخطية المدانة بالقذى. من أجل ذلك قَبِلَ توبةَ زكا العشار، وصفح عما فعله من آثامٍ، وشجب الفريسي لكونِه دان غيرَه، مع ما له من صدقةٍ وصومٍ وصلاةٍ وشكرٍ لله على ذلك. فالحكم على خليقةِ الله، يليق بالله لا بنا، فدينونةُ كلِّ واحدٍ وتزكيتُه هي من قِبل الله وحدَه، لأنه هو وحدَه العارف بسرِّ كلِّ إنسانٍ وعلانيته. وله وحده إصدارُ الحكم في كلِّ أمرٍ وعلى كلِّ شخصٍ. إذ يتفق أن يعمل إنسانٌ عملاً بسذاجةٍ وبقصدٍ يرضي الله، وتظن أنت غير ذلك. وإن كان قد أخطأ، فمن أين تعلم إن كان تاب وغفر الله له، أو إن كان الله دانه في العالم إزاءَ ذنوبهِ؟ فالذي يريد الخلاص إذن، ليس له أن يتأمل غيرَ نقائص نفسِه، مثل ذلك الذي رأى أخاه قد أخطأ فبكى وقال: «اليوم أخطأ هذا الأخُ، وغداً أخطئ أنا، وربما يُفسح الربُّ لهذا فيتوب، وقد لا يُفسح لي أنا». فبالحقيقة ويلٌ لمن يدين أخاه فإنه سيُهلك نفسَه بكونِه صار ديانًّا، ولكونهِ يؤذي الذين يسمعونه. وعنه يقول النبي: «ويلٌ للذي يسقي أخاه كأساً عَكِرَة». وكذلك: «ويلٌ للذي من قِبلهِ تأتي الشكوك». أما أصلُ هذا كلِّهِ فهو عدمُ المحبة، لأن المحبةَ تغطي كلَّ عيبٍ. أما القديسون فإنهم لا يدينون الأخَ، لكنهم يتألمون معه كعضوٍ منهم، ويشفقون عليه ويعضدونه ويتحايلون في سبيلِ خلاصِهِ، حتى ينشلونه كالصيادين الذين يُرخون الحبلَ للسمكةِ قليلاً قليلاً حتى لا تخرق الشبكةَ وتضيع، فإذا توقفت سَوْرةُ حركتِها حينئذ يجرُّونها قليلاً قليلاً. هكذا يفعل القديسون، فإنهم بطول الروح يجتذبون الأخَ الساقطَ حتى يقيموه، كما فعل شيخٌ إذ جلس على الماجورِ الذي كانت تحته المرأة، لكي لا يجدها أولئك الذين نمُّوا على الأخ، (وقد فعل ذلك) بشفقةٍ ومحبةٍ، لا باستنقاصٍ وتعيير (س5: 82ظ) (Dor. Discoures 6).
396 – قيل: سأل أحدُ الإخوةِ شيخاً قائلاً: «ما السبب في أني أدين الإخوةَ دائماً»؟ فأجابه الشيخُ: «لأنك ما عرفتَ ذاتك بعد، لأن من عرف ذاته، لا ينظرُ عيوبَ إخوتِهِ» (س5: 85ج).
397 – قيل كذلك: كان أخَّانِ في كنوبيون، واستحق أن ينظرَ كلٌّ منهما نعمةَ اللهِ على أخيه. فعرض لأحدِهما أن يخرجَ يومَ الجمعةِ خارج الكنوبيون، فرأى إنساناً يأكل مبكراً، فقال له: «أفي هذا الوقت تأكل يومَ الجمعةِ»؟ ولما كان الغدُ رآه أخوه ولم يبصرْ عليه النعمةَ التي كانت تُرى عليه، فحزن لذلك، ولما جاء إلى قلايتهِ قال له: «ماذا عملتَ يا أخي»؟ قال: «ما عملتُ شيئاً حتى ولا فكرتُ فكراً رديئاً». قال له: «ألم تتكلم بشيءٍ»؟ فقال: «نعم، بالأمسِ رأيتُ إنساناً خارج الكنوبيون يأكلُ مبكراً، فقلت له: أفي هذا الوقت تأكل يومَ الجمعةِ»؟ فقام بالتكفير عن ذلك مدة أسبوعين، وسأل الله بتعبٍ، فظهرت نعمةُ اللهِ على الأخِ، فشكرا الله كلاهما (س5: 85ج) (An. 255)
398 – قال أحدُ الآباء: إن أخاً من الإخوةِ جاء إلى آخر، وتحدَّثا بشأنِ أخٍ لا يحفظُ العفةَ، فأجاب الآخرُ وقال: «وأنا سمعتُ بهذا أيضاً». فلما مضى ذلك الأخ إلى قلايتهِ لم يجد فيها الراحةَ التي تعوَّدها. فقام ورجع إلى ذلك الأخ وضرب له مطانية قائلاً: «اغفر لي، فإني لم أسمع شيئاً عن ذلك الأخ». فقال له الآخر كذلك: «ولا أنا سمعتُ شيئاً». فلما ندما على ما قالا وجدا راحةً (س5: 85ج).
401 – وقال أيضاً: إن أخاً من الرهبانِ كان يسير بتوانٍ كثير، هذا وُجِدَ على فراشِ الموتِ وهو في النزعِ الأخير بدون جزعٍ من الموتِ. بل كانت نفسُه عند انتقالهِ في فرحٍ كاملٍ وسرورٍ شاملٍ. وكان الآباءُ وقتئذ جلوساً حوله، لأنه كانت العادةُ في الديرِ أن يجتمعَ الرهبانُ كلُّهم أثناء موتِ أحدهم ليشاهدوه، فقال أحدُ الشيوخِ للأخِ الذي يموت: «يا أخانا، نحن نعلم أنك أجزتَ عمركَ بكلِّ توانٍ وتفريط، فمن أين لك هذا الفرحُ والسرور وعدمُ الهمِّ في هذه الساعةِ؟ فإننا بالحقيقةِ لا نعلمُ السرَّ، ولكن بقوةِ الله ربنا تقوَّ واجلس وأخبرنا عن أمرِك العجيب هذا، ليعرفَ كلٌّ منا عظائمَ اللهِ». وللوقت تقوَّى وجلس، وقال: «نعم يا آبائي المكرَّمين، فإني أجزتُ عمري كلَّه بالتواني والنوم، إلا أنه في هذه الساعةِ، أحضرَ لي الملائكةُ كتابَ أعمالي التي عملتُها منذ أن ترهَّبْتُ، وقالوا لي: أتعرفُ هذا؟ قلتُ: نعم، هذا هو عملي، وأنا أعرفه، ولكن من وقتِ أن صِرتُ راهباً ما دِنتُ أحداً من الناسِ قط، ولا نَمَمْتُ قط، ولا رقدتُ وفي قلبي حقدٌ على أحدٍ، ولا غضبتُ البتة، وأنا أرجو أن يَكْمُل فيَّ قولُ الرب يسوع المسيح القائل: لا تدينوا لكي لا تدانوا، اتركوا يُترك لكم. فلما قلتُ هذا القولَ، تمزَّق للوقتِ كتابُ خطاياي بسبب إتمامِ هذه الوصية الصغيرة». وإذ فرغ من هذا الكلام أسلم الروحَ. فانتفع الإخوةُ بذلك وسبَّحوا الله (س5: 85ظ) (An. 530).
76 – … لا تحتقر أحداً من الناسِ ولا تَدِنْهُ ولو رأيتَه ساقطاً في الخطيةِ، لأن الدينونةَ تأتي من تعاظمِ القلبِ، أما المتضعُ فإنه يَعتبرُ كلَّ الناسِ أفضلَ منه. فبأيِّ حقٍّ تدينُ عبداً ليس لك، فإن سقط فلِرَبِّهِ، وربُّه قادرٌ أن يُقيمَه. إن كنتَ غريباً فاعتكف ولا تدخل عند أحدٍ ولا تختلط بصنائعِ الدنيا. وإن كنتَ بائساً فداوم على العملِ بدونِ مللٍ. أحبَّ الذي يؤدِّبك بخوفِ اللهِ. واجعل جميعَ الناسِ يستفيدون منك وابنِهِم بفضائلِ الأعمالِ والكلامِ الصالح»] (س5: 35ج) (Pa. inst. I, 1-12).
392 – قال الأب يوحنا السينائي: إنه في حالِ جلوسي في البريةِ الجوانية، جاءني أحدُ الإخوة متفقداً مِن الدير، فسألتُه: «كيف حالُ الإخوة»؟ فأجابني: «بخيرٍ بصلاتِك». فسألتُه أيضاً عن أخٍ واحدٍ كانت سمعتُه قبيحةً، فأجابني: «صدقني يا أبي، إنه لم يتُب بعد منذ ذلك الوقتِ الذي أُشيعت عنه فيه تلك الأخبار». فلما سمعتُ ذلك قلتُ: «أُفّ». فعند قولي «أفّ» أخذَني سُباتٌ وكأن نفسي قد أُخذت، فرأيتُ أني قائمٌ قدامَ الجمجمة، والمسيحُ مصلوباً بين لصين، فتقدمتُ لأسجدَ له، ولكنه أمر الملائكةَ الواقفين قدامَه بإبعادي خارجاً قائلاً: «إن هذا الإنسان قد اغتصب الدينونةَ مني ودان أخاه قبل أن أَدينه أنا». فولَّيْتُ هارباً، فتعلق ثوبي بالباب وأُغلق عليه، فتخليْتُ عن ثوبي هناك. فلما استيقظتُ قلتُ للأخ الذي جاءني: «ما أردأَ هذا اليومَ عليَّ». فأجابني: «ولِمَ يا أبي»؟ فأخبرتُه بما رأيتُ وقلت: «لقد عَدِمْتُ هذا الثوبَ الذي هو سُترة الله لي».
ومن ذلك اليوم، أقام القديسُ هكذا تائهاً سبعَ سنين في البراري، لا يأكل خبزاً ولا يأوي تحت سقفٍ، ولا يبصرُ إنساناً. وأخيراً رأى في منامِهِ كأن الربَّ قد أمر أن يُعطوه ثوباً. فلما انتبه فَرِحَ فرحاً عظيماً، وبعد أن أخبرنا بذلك بثلاثة أيامٍ تنيح. فلما سمعنا ذلك تعجبنا قائلين: «إن كان الصِّديقُ بالجَهدِ يخلص، فالمنافق أين يظهر»؟ (س5: 83ظ) (PE, III, 2B, 36).
396 – قيل: سأل أحدُ الإخوةِ شيخاً قائلاً: «ما السبب في أني أدين الإخوةَ دائماً»؟ فأجابه الشيخُ: «لأنك ما عرفتَ ذاتك بعد، لأن من عرف ذاته، لا ينظرُ عيوبَ إخوتِهِ» (س5: 85ج).