الصناعة الرهبانية
الصناعة الرهبانية
قيلت في 4/12/2015 في مؤتمر رهباني بكنيسة سان جوزيف
وفي مايو 2016 لرهبان دير أنبا مقار
وفي مايو 2017 لكهنة ملبورن
في بداية الحياة الرهبانية للأب متى المسكين، أي في نهايات الأربعينات من القرن الماضي، سمع هذا التعبير من أحد الرهبان القدماء: «كار الترهبين دا كار صعب». الكار هو الحرفة أو الصنعة. أي أنه كان يقصد أن حرفة الرهبنة هي حرفة صعبة.
من الممكن أن نأخذ هذه العبارة بالمعنى السلبي، وهنا تصير الرهبنة حرفة أو مهنة، ترك الإنسان العالم ومهنته، سواء أكانت في الطب أو الهندسة أو الزراعة أو التعليم أو القانون، أو أية مهنة عظمت أو قلت، وانخرط في سلك الرهبنة كبديل لمهنته الأصلية. وهنا يخضع الطريق الرهباني لآليات السوق من المكسب أو الخسارة، ومن الممكن أن يحقق الراهب في هذا الطريق إنجازات عظيمة، لكنه لن يصل بأي حال من الأحوال لمعرفة أسرار طريق الرهبنة التي لا يعلنها الله إلا لأهل سرِّه، أو لمحبيه: «سِرُّ الرَّبِّ لِخَائِفِيهِ وَعَهْدُهُ لِتَعْلِيمِهِمْ» (مز 25 : 14).
ومن الممكن أن نأخذ هذا التعبير بالمعنى الإيجابي، وهنا تتطلب الرهبنة كحرفة أن يتوفر لها مقومات أية حرفة مثل:
+ وجود المعلم المختبر الطريق الذي يقوم بتسليم الطريق للمبتدئ في هذه الحرفة،
+ وبالتالي تحتاج إلى طاعة الأخ المبتدئ لكل ما يعلِّمه إياه معلِّمُه.
+ كما تتطلب هذه الحرفة أيضاً وسائل وآلات وإمكانيات تمكن الإنسان من النجاح في الطريق.
تقول كتابات الآباء أو ما يعرف باسم أقوال الآباء الشيوخ أو بستان الرهبان:
583 – قال أخ: قلتُ لأنبا بفنوتيوس تلميذ الأب مقاريوس الكبير: «قل لي يا أبي كلمةً أحيا بها». فقال لي: «احفظ القناةَ التي تجري إلى مزرعتك». فقلتُ له: «ما معنى هذا»؟ قال: «القناة هي فمك، فإن لم تحفظه فلن تثمر نفسُك». فقلتُ: «كيف أحفظه»؟ قال: «إذا لم تسكن مع فلاحٍ فمِن أين لك أن تعرفَ ما تشتمل عليه الفِلاحة من حرثٍ وبذرٍ وحفظٍ وسقي وحصاد وغيره»؟ قلتُ أيضاً: «وما معنى هذا»؟ قال: «إذا لم تسكن مع شيخٍ مجرَّب كي يعلمك الرهبنةَ، فمِن أين تتعلمها؟ فلو انتقلتَ من مكانٍ إلى مكانٍ، أو انفردتَ وحدك، أو صرتَ أباً قبل أن تُستأهل لذلك من قِبل الله، فإنك تقيم كلَّ زمانِك وأنت لا تعرف كيف تحصد ثمر الفضيلةِ، بل تُضيِّع الزرعَ الذي هو تعليم طريق الله. فيجب عليك أن تسكنَ مع شيخٍ حتى تنال منه البركةَ الأخيرةَ، مثل أليشع الذي ثبَتَ مع إيليا حتى رُفع إلى السماء، فلما باركه تضاعفت عليه روحُه، ومثل تلميذيْ أنطونيوس اللذين سكنا مع الشيخِ حتى طرحَ الجسدَ، وباركهما البركةَ الأخيرةَ فحل عليهما روحُ الله وصارا راعيين صالحين، ومثل يوحنا الذي سكن مع أموي أبيه حتى فارق جسدَه، فسلَّمه للشيوخِ قائلا: هذا ملاك وليس بإنسانٍ، وكمثل يوحنا تلميذ أنبا بولا الذي أطاع أباه فأحضر الضبعةَ مربوطةً، ومثل تلميذٍ آخر لشيخٍ حيث كان يمشي مع متوحدٍ حتى وصلا إلى شاطئ نهرٍ فيه تماسيح، فعبر التلميذُ المطيع بينها وما استطاع المتوحدُ العبورَ، حتى أن الشيوخ في ذلك الوقتِ قالوا: إن التلميذَ المطيع بطاعتِه صار أعلى من المتوحد (Bu. I, 242).
كما يذكر أيضاً كتاب بستان الرهبان هذا القول:
623 – قال أحدُ الشيوخِ: «إن الإفرازَ الحقيقي، لا يكون إلا من الاتضاع، والاتضاع هو أن نكشف لآبائِنا أفكارَنا وأعمالَنا، ولا نثق برأينا، بل نستشير الشيوخَ المجرَّبين الذين نالوا نعمةَ الإفرازِ، ونعمل بكلِّ ما يشيرون به علينا، فالذي يكشفُ أفكارَه الرديئة لآبائهِ فإنها تخفّ عنه، … وإذا كانت الصناعات التي نبصرها بعيوننا ونسمعها بآذاننا ونعملها بأيدينا، لا نقدر أن نمارسها بذواتنا إن لم نتعلمها أولاً من معلميها، أفليست إذن جهالةً وحماقةً ممن يريد أن يمارسَ الصناعةَ الروحانية غيرَ المرئية بغير معلمٍ؟، علماً بأنها أكثر خفاءً من جميعِ الصنائعِ، والغلط فيها أعظمُ خَسارة من كلِّ ما عداها»؟ (س5: 22ظ).
نعم، تحتاج حياتنا الرهبانية لإرشاد أب يعرف الطريق الرهباني، مع التزامنا أمامه بالطاعة الكاملة، أما آلات هذه الصناعة فتلخصها الوصية التي تُتلى على الراهب أو الراهبة يوم الرسامة. وسوف أقرأ عليكم الآن الوصية التي وردت في مخطوط طقس 211 في مكتبة دير القديس أنبا مقار، وهي نفس الوصية تقريبًا التي نقرأها حتى الآن في طقس رسامة الراهب أو الراهبة، وسوف أعلق فقط على بعض النقاط الهامة، وسيكون التعليق بنصوص رهبانية أيضًا:
باسم الآب والابن والروح القدس الاله الواحد. اعلم أيها الأخ الحبيب مقدار هذه النعمة التي أدركتك لأنك لبست الإسكيم الذي للملائكة، وأقمت ذاتك جندياً للمسيح، وتقدمت إلى عظم جهاد صالح. أول كل شيء قد تجدَّدت وتنقيت من الأعمال الردية التي للعالم كما شهد القديس العظيم أنطونيوس أب الرهبان إن الروح الذي يحل على المعمودية المقدسة هو يحل على الإسكيم وقت الرهبنة ويطهر الذي يصير راهباً، ثم شهد أيضاً العظيم أنطونيوس أنه رأى ذاته كأن نفسه خرجت من جسده وأعاقوها في الجو وأرادوا أن يحاسبوها منذ صغره، وإذا صوت من السماء قائلاً، من صغره إلى حين صار راهباً قد تركتُ له وغفرتُ خطاياه بالرهبنة، ولكن حين صار راهباً حاسبوه. وهكذا حاسبوه فوجدوه بغير لوم، كريماً أما الرب، ذا أعمال فاضلة.
697 – [قال شيخٌ آخرُ: «إني رأيتُ قوةَ النعمةِ الإلهيةِ الحالّة في عمادِ النورِ، هي كما هي، حالّةً في وقتِ التسربل بالزي الإسكيمي (Chaîne. 202)[1]، أما الذي يطرحُ عنه زي الرهبنةِ فلا حظَّ له مع المؤمنين، بل يُرتَّب مع جاحدي الإيمان، ويُعاقَب، متى لم يتب لله توبةً بالحقِّ من كلِّ قلبهِ»] (س5: 144ظ) (An. 365)[2].
والآن أيها الأخ الحبيب، قد تطهرت من دنس العالم الكثيرة الأنواع، فاحفظ نفسك منذ الآن لتكون جندياً صالحاً ليسوع المسيح، ملك الملوك، وتقاوم الحرب الخفي الذي لإبليس وجنوده الأشرار،
701 – [أخبر أحدُ الشيوخِ: إنه في بعضِ الليالي، في أثناءِ صلاتِه وهو في البريةِ الجوانية، سمع صوتَ بوقٍ يضربُ ضرباً عالياً، كمثل ما تُضرب أبواقُ الحربِ، فتعجب متفكراً بأن البريةَ مقفِرةٌ وليس فيها آدميٌّ، فمن أين صوتُ البوقِ في هذه البريةِ، أَتُرى حربٌ ها هنا؟ وإذا بالشيطانِ قد وقف مقابلَه وقال بصوتٍ عالٍ: «نعم يا راهب، حربٌ هي، إن شئتَ فحارب، وإلا سلِّم لأعدائك»] (س5: 145ظ).
واحفظ العهد الذي قررته الآن، أن تتعبد لله بخوف ورعدة، وتداوم تلاوة المزامير نهاراً وليلاً، مع سهر الليل، والأبصلمودية وصلاة الكنيسة المقدسة المفروضة، وتكمل ذلك باجتهاد، والصوم بمقدار ونسك في الطريق الملوكي، وطهارة الجسد الذي لا يعاين أحد الله دونها، لتكون صديقاً للملائكة. وواظب (على) الخضوع ولازم الاتضاع والطاعة للشيوخ المجربين، واحرص بأن تسمع لمن يرشدك ويهديك لطريق الله، ووصاياه المقدسة إلى حد الموت، لكي تنال تاج أبناء الله، وترث ملكوت السموات، ويكون لك نصيب ووراثة مع كافة القديسين الذي أرضوا الرب منذ البدء.
666 – [أخبر أبٌ أنه أبصرَ أربع مراتب مرتفعةً في السماءِ، الأولى: مريضٌ شاكرٌ لله. والثانية: صحيحٌ يضيفُ الغرباء وينيح الضعفاء. والثالثة: منفردٌ في البريةِ مجتهدٌ. والرابعة: تلميذٌ ملازمٌ لطاعةِ أبيه من أجلِ الله. ووجد أن مرتبةَ التلميذ أسمى من المراتب الثلاث الأخرى، وزعم أنه سأل الذي أراه ذلك قائلاً: «كيف صار هذا هكذا وهو أصغرهم، فأصبح أكبرهم مرتبةً»؟ فقال: «إن كلَّ واحدٍ منهم يعمل الخيرَ بهواه، وأما هذا فقد قطع هواه لله، وأطاع معلمه، والطاعة لأجلِ اللهِ أفضل الفضائل»] (س5: 139ظ).
570 – [وقال راهبٌ: «إن الذي يجلس في طاعةِ أبٍ روحاني لهو أكثرُ أجراً وأقلُّ خطراً من ذاك الذي يجلس منفرداً في الوحدةِ والسكوت] (Abc. Rufus 2a).
واحرص أن تعيد الوزنة التي تسلمتها متضاعفة لتسمع الصوت القائل، حسناً أيها العبد الصالح والأمين، لأنك أمينا وُجدت في القليل أنا أقيمك على الكثير، ادخل إلى فرح سيدك، والرب الإله يعينك ويساعدك في كل عمل صالح، ويحرسك من تجارب العدو المعاند، إلى النفس الأخير، ويجعلنا جميعاً مستحقين سماع ذلك الصوت المملوء فرحاً القائل تعالوا إلى يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم قبل إنشاء العالم، ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر،
637 – قال شيخٌ: «كما أن الإنسانَ الذي ترك المملكةَ وترهب يُمدح من كلِّ العقلاءِ والفضلاءِ، لأن الرهبنةَ أفضلُ من كلِّ ما تركه، إذ هي توصِّل إلى المملكةِ السمائية الدائمة، كذلك إذا ترك إنسانٌ الرهبنةَ وصار ملكاً، فإنه يُذمُّ من كلِّ الفضلاءِ». (س5: 137ج)
بشفاعة الست السيدة العذراء الطاهرة والدة الإله مرتمريم البتول ومار مرقس الإنجيلي الرسول والأب العظيم أنبا أنطونيوس والبار أنبا بولا والثلاثة مقارات وكافة لباس الصليب والمجد للآب والابن والروح القدس، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين.
هذا هو كار الترهبين، أو الصناعة الرهبانية التي نحن جميعًا مطالبين أن نتقنها حسب الأصول التي وضعها لنا آباؤنا القديسون.
[1] Le Manuscrit de la version copte en dialecte sahidique des Apophthegmata Partum, par M. Chaîne, 1960.
[2] L. Regnault, Les Sentences des Pères du désert: Série des anonymes. Solesmes, 1985.