الميراث الإنساني والروحي للأب متى المسكين

في الذكرى العاشرة لانتقاله للسماء

 

جناب الأب الفاضل انسو بيانكي رئيس دير بوزى

سادتي الآباء المطارنة والأساقفة والإكليروس،

الآباء والإخوة والأخوات أعضاء دير بوزى،  الإخوة والأخوات الحضور

أولاً كلفني قداسة البابا المعظم أنبا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية أن أنقل لجميعكم تحياته ومباركته لهذا اللقاء، مع تمنياته بنجاح المؤتمر، وصلواته من أجل جميع الحضور.

أتقدم بالشكر العميق لجناب الأب المحبوب انسو على دعوته الكريمة لهذا المحفل المبارك الذي نحتفل فيه بذكرى عزيزة على قلوبنا، وهي الذكرى العاشرة لرحيل أبينا الروحي الأب متى المسكين، الذي تتلمذنا على يديه، وتعلمنا منه الكثير، وما زلنا كل يوم نتعلم من كتاباته وسيرته التي تركها لنا، ذخراً للكنيسة الجامعة.

ففي عام 2006 رحل عن عالمنا الأب متى المسكين، الأب الروحي لدير  القديس أنبا مقار بوادي النطرون في الصحراء الغربية بمصر. لكنه قبل رحيله ترك لأولاده ميراثاً غزيراً إنسانياً وروحياً، ما زلنا نغترف منه حتى الآن، ولا ندعي أننا قد استطعنا أن نستوعبه كله أو حتى ندرك أبعاده.

وسأوجز كلمتي في أربع نقاط فقط أشعر أنه كان لكتاباته أكبر الأثر فيها.

أولاً: الأب متى المسكين والانفتاح على الكنيسة الجامعة:

من الصعب على غير الدارسين لتاريخ الكنيسة القبطية في العصر الحديث أن يدركوا مدى الأثر الذي تركه الأب متى المسكين في نظرة الأقباط للكنائس الأخرى، أو مدى تأثير الأب متى المسكين على الحياة الرهبانية وعلى حقل الدراسات الآبائية والإنجيلية في مصر.

ففي النصف الأول من القرن العشرين، بدأت في مصر حركة مدارس الأحد التي كان يقودها الأرشيدياكون حبيب جرجس، الذي اعترفت الكنيسة القبطية بقداسته منذ ثلاثة أعوام. وكان كل ميراث هذه الحركة يتمثل في كتابات جدلية وكتابية واردة من الكنائس الأخرى، ولم يكن هناك أية دراسات آبائية معروفة أو تفاسير كتاب مقدس في يد القارئ القبطي باللغة العربية، سوى بعض الكتب المترجمة عن كتَّاب من الكنائس البروتستانتية. وكانت أهم هذه الكتابات وأكثرها شيوعاً تفاسير ف ب ماير Fredereick Brotherton Meyer ومتى هنرى Matthew Henry، وعلى هذه الكتابات تتلمذ معظم قادة الكنيسة في ذلك الوقت. وفي حقل الدراسات اللاهوتية لم تكن الكنيسة تعرف سوى كتاب علم اللاهوت تأليف القمص ميخائيل مينا ناظر مدرسة الرهبان في ذلك الوقت، وكان قد قام بتأليف هذا الكتاب عام 1938، ويتبع فيه نظام اللاهوت الغربي المعروف باسم اللاهوت النظامي.

وفي عام 1951 صدر للأب متى المسكين كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية، وهو أول كتاب يصدر له بعد تكريس حياته للرهبنة بثلاث سنوات فقط، وكان لهذا الكتاب صدى واسع عند الناطقين باللغة العربية داخل مصر وخارجها، حتى إن جناب المطران جورج خضر، مطران جبل لبنان للروم الأرثوذكس، زعم أن هذا أول كتاب في العصر الحديث لكاتب قبطي يتتلمذ عليه الروم.

لم يكن هذا الكتاب مجرد بحث في أصول الروحانية الأرثوذكسية، بل كان نافذة أطل منها الأقباط على ماضي حياتهم الروحية والآبائية والرهبانية، وكان له تأثير بالغ في حياة الآلاف من الأقباط، الذين صار منهم الكثير من قادة الكنيسة بعد ذلك. بل كان له تأثير في الكثير من الحركات الرهبانية خارج مصر، خاصة في السنوات الأخيرة، بعد أن تم ترجمته للغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والأوكرانية.

ولعل من أهم ما تضمنه هذا الكتاب، وكان له أثر كبير لم نشعر به إلا بعد مرور سنوات طويلة، هو ذكر أقوال لقديسي الكنيسة غير الأقباط، أي من الكنيسة الجامعة، والتي لا تعرفهم الكنيسة القبطية، مثل القديس غريغوريوس الكبير والقديس يوحنا الدمشقي والقديس ساروفيم ساروفسكي، مما فتح للأقباط نافذة جديدة على الكنائس الشقيقة الأخرى، التي كنا ننظر إليها ولسنوات طويلة على أنها كنائس معادية لنا، فإذا بنا نقرأ سير قديسيها وأقوالهم، ونتمثل بحياتهم. وكان هذا إيذاناً بقبولنا الآخر الذي لم تستطع الحوارات المسكونية حتى الآن أن تحققه.

ولقد أدرك الأب متى المسكين وقتها أهمية هذا الكتاب فكتب في عام 1968 في مقدمة الطبعة الثانية، تعليقاً على كلمة المطران جورج خضر: إن الله اختار هذا الكتاب ليكون فيه كلمة مصالحة ونقطة تقابل، لا على صعيد الحوار الفكري أو الجدل اللاهوتي، بل على مستوى وحدة الحياة الروحية وتجليات الإيمان الذي يتجاوز العجز اللفظي إلى نور الحق الإلهي المعاش.

ثم بدأ الأب متى المسكين يذكر في عظاته أسماء قديسين غربيين كان لهم تأثيرٌ في حياته الروحية، ومسيرته الرهبانية، مثل القديسة تريزا الطفل يسوع والقديس فرنسيس الأسيزي، فكان لمثل هذه الكتابات والأقوال أثرٌ فعالٌ في حياة الأقباط تجاه قديسي الكنيسة الجامعة، مع الإحساس العميق بوحدانية جسد المسيح. ولعل تواجدنا كأقباط الآن في دير كنيسة شقيقة لهو إحدى ثمار مثل هذه الكتابات. وأيضاً التواجد المستمر لرهبان وراهبات من الكنائس المختلفة في أديرة الكنيسة القبطية على مدار العام، لهو ثمرة أيضاً لروح الحب والتفاهم التي غرستها فينا كتابات الأب متى المسكين.

أتذكر أنه في أول زيارة لي إلى أيطاليا لحضور المؤتمر الدولي للدراسات القبطية، الذي نظمته الجمعية الدولية للدراسات القبطية (International Association for Coptic Studies)، والذي انعقد عام 2012، أنه في أثناء زيارتنا لكاتدرائية ميلانو، أن تقابلنا مع الآباء المسئولين عن هذه الكاتدرائية. وبمجرد أن عرفوا أننا من مصر، كان أول سؤال يطرحونه علينا: هل تعرفون الأب متى المسكين؟ وكانت مفاجأة لنا. فأشار الأب الأسقف المسئول عن الوفد المصري نحوي وقال: هذا ابنه. فأقبل علي الآباء يقبلونني ويحيونني بحرارة!. فلما استفسرنا منهم عن سبب سؤالهم هذا؟ قالوا لنا نحن من تلاميذ الأب متى المسكين، وفي ديرنا نقرأ  كتاباته كل يوم. وقتها علمت بمدى أهمية ما قام به دير بوزى هنا في إيطاليا من ترجمة كتابات الأب متى إلى الإيطالية، في أسلوب جميل وإخراج رائع، مما أتاح لأشقائنا في كنيسة روما بالتعرف على الكنيسة القبطية من خلال تلك الترجمات.

ثانياً: الأب متى المسكين والتجديد الرهباني:

عندما بدأ حياته الرهبانية، كانت الأديرة القبطية في حال يُرثى له، فأعداد الرهبان كانت قد تناقصت كثيراً، ومباني الأديرة آل بعضها للسقوط، خاصة دير القديس أنبا مقار، ولم يكن بالأديرة أي رهبان من خريجي الجامعات أو من المنكبين على الدراسات القبطية والإنجيلية سوى النذر القليل.

ومنذ أول يوم لتكريس حياته للرهبنة، وضع في قلبه أن يحيا حياة رهبانية تقوم على مبادئ الإنجيل ووصايا قديسي الرهبنة خاصة أنبا أنطونيوس وأنبا مقار وأنبا باخوميوس. فكان أول كتاباته الرهبانية بعنوان أنبا أنطونيوس ناسك إنجيلي، أوضح فيه الأساس الإنجيلي الذي تقوم عليه الحياة الرهبانية، والتي بدونها نصبح غرباء عن الطريق الصحيح. ثم بدأ عملياً في إحياء حياة الرهبنة كمزيج بين حياة الوحدة كما عرفها القديس أنبا مقار، وحياة الشركة كما وضع أسسها القديس أنبا باخوميوس. فكان أول من أعاد مائدة الأغابي التي يجتمع حولها الرهبان كل يوم، كطقس رهباني أصيل، يوحد الرهبان معاً في خبز المحبة، بعد أن كان هذا الطقس قد اختفى من أديرتنا منذ مئات السنين، وقد سعدتُ جداً عندما استضافني الرهبان هنا لأخذ بركة الشركة في مائدة المحبة الرهبانية، فوجدت فيهم نفس روح الشركة التي علمنا إياها أبونا متى، منادياً أن الشركة في المائدة الواحدة هو امتداد للشركة في الإفخارستيا. كما وضع الأب متى أسس العمل اليدوي كعمل مشترك لكل رهبان الدير القادرين على العمل، واضعاً في ذهنه أنه على الراهب أن يعول نفسه، وأن يقدم فائض عمله لخدمة المحتاجين، حسب وصية آباء الرهبنة.

ثالثاً: الأب متى المسكين والتعليم الكنسي:

أحدثت كتابات الأب متى المسكين تغييراً ملحوظاً في مجال التعليم في الكنيسة القبطية. والسبب الحقيقي وراء هذا التغيير، أن الأب متى المسكين لم يتتلمذ على اللاهوت القبطي المعاصر أو المستحدث الذي كان منتشراً في ذلك الوقت، إذ أنه بتدبير إلهي، حسب تعبيره، حصل على مجموعة كاملة لأقوال الآباء مترجمة إلى اللغة الإنجليزية، فقرأها بنهم، فانطبع فكر الآباء على تفكيره، واصطبغت حياته بسير قديسي الكنيسة، فخرجت كتاباته لها طعم كتابات آباء الكنيسة دون الحاجة لذكر نصوص كثيرة حرفية لهم. فلأول مرة في الكنيسة القبطية في العصر الحديث نرى كتابات عن الروح القدس وحلوله فينا، وقيادته لنا في جهادنا الروحي. وكنتيجة مباشرة لهذه الكتابات تغير مفهوم الجهاد في الحياة الرهبانية، فأصبح النسك الرهباني هو ثمرةً لعمل الروح القدس فينا، وأصبح الجهادُ الروحي تقدمةَ شكرٍ نقدمها لله كل يوم عرفاناً منا بالفداء الذي نلناه نتيجة لذبيحة الصليب. أليس هذا تماماً ما كان ينادي به القديس أنطونيوس الكبير في رسائلة وأقواله لأبنائه الرهبان؟

وهكذا في مفهوم الأب متى المسكين للأعياد الكنسية، فميلاد الرب يسوع هو ميلاد الإنسان الجديد، ومعموديته وحلول الروح القدس عليه في الأردن، هو معمودية الخليقة الجديدة وتصالحها مع الله لقبول سكنى الروح القدس الدائم فيها، وصليب الرب هو صليبنا نحن، لأننا كنا في المسيح، متحدين به. وبالتالي عندما قام من بين الأموات، كنا جميعاً قائمين فيه: مع المسيح صلبت، أقامني معه وأجلسني معه في السماويات. أليس هذا مفهوم التجسد والفداء كما شرحه آباء وقديسي الكنيسة؟

هذه المفاهيم الآبائية تغلغلت في جميع كتابات الأب متى المسكين، فأحس بها القارئ المسيحي بغض النظر عن انتمائه الطائفي، وأيقن أن هذه الكتابات تخصه هو، وهكذا مرة أخرى تصير هناك وحدة غير معلنة بين الكثير من القراء بسبب تلك الكتابات، وقد شعرنا نحن أولاده بهذه الوحدة من الصداقات التي تكونت لدينا من جميع الطوائف المسيحية، ومن روح المحبة التي لمسناها من أخوتنا في الكنائس الأخرى.

رابعاً: الأب متى المسكين والوحدة الكنسية:

في عام 1965 كتب الأب متى المسكين مقالاً بعنوان الوحدة المسيحية، بثَّ فيه أفكاره وتصوراته حول مفهوم الوحدة المسيحية وكيفية تحقيقها، مؤكداً على أننا لا نريد وحدة عاطفية تكون لمجد الإنسان وتعظيم الذات البشرية، مثلما حاول الإنسان في القديم أن يقيم وحدةً الغرض منها بناء برج بابل، فكانت النتيجة التفتت والانقسام. ولا أن تكون وحدةً قائمةً على التكتل ليتقوى الضعيف بالقوي وليزداد القوي قوة وسلطاناً. بل تكون وحدةً على مستوى إلهي، كنتيجة حتمية لاتحاد الإنسان بالله. أي نتيجة لوصية الله الأولى: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، ثم الوصية الثانية مثلها: وتحب قريبك كنفسك. فالوصية الثانية قائمة  على الأولى، وبدونها لا تساوي شيئاً. يقول الأب متى المسكين: الطريق الموصل إلى الاتحاد بالله ليس طريقاً مفرداً، أي ينتهي عند الله وحسب، بل يعود وينحدر إلى القريب وإلى الغريب وإلى العدو وإلى كل الخليقة، والذي يتحد بالله يلزم في الحال أن ينظر كيف يتحد بالكل ولا يهدأ حتى يكمل هذا الاتحاد.

ثم يعود في عام 1972 ويكتب مقالاً في مجلة النور اللبنانية للروم الأرثوذكس، يقول فيها: إن عدم اكتمال جامعية الكنيسة ووحدتها حتى الآن بين كنائس العالم إنما يلح علينا جميعاً، لا أن نراجع لاهوتنا، فلاهوتنا صادق جداً وأمين، بل أن نراجع أنفسنا على لاهوتنا الصحيح حتى نصحح رؤيتنا لله كأب واحد لكل البشر، ونصحح إدراكنا للمسيح كمخلِّص واحد وفاد واحد لكل من يدعو باسمه، الذي تبنَّى الإنسانية كلها لله بدون تمييز، ثم نصحح حبنا للإنسان، كل إنسان، باعتباره أخاً لنا بالالتزام، حتى ولو ناصبنا العداء.

ثم لكي يؤكد أن الوحدة ليس معناها التنازل عن العقيدة، يكتب كتيباً في عام 1984 بعنوان: الوحدة الحقيقية ستكون إلهاماً للعالم، يضع فيه تصوراً بسيطاً لخطوات إيجابية تساعد على الوحدة بين الخلقيدونيين واللاخلقيدونيين:

فالخطوة الأولى أن تتبادل الكنائس في وقت واحد رفع الحرم، الواحدة عن الأخرى، لأن هذا الحرم هو ضد مشيئة الروح القدس، وقد حدث عن جهل كل كنيسة بروح وضمير الكنيسة الأخرى، وبسبب التمسك بالحرف لا بالروح.

والخطوة الثانية الاعتراف المتبادل والمتزامن بين الخلقيدونيين واللا خلقيدونيين بعقيدة كل منهما على أساس الجوهر لا المضمون، أي على أساس موجبات الخلاص والحياة الأبدية الذي توفره عقيدة كل منهما بواسطة يسوع المسيح العامل فيهما بصورة واحدة برغم اختلاف النصوص.

والخطوة الثالثة الدخول في حوار المضمون ورفع الغموض بالشرح وليس بالحذف أو بالإضافة في بنود العقيدة المسلَّمة حرفياً بالتقليد لكل منهما، لتوفير صيغة مصالحة تتناسب مع وحدة الشركة والروح، دون المساس بكل ما يتعلق بتاريخ العقيدة وتفرعاتها من مؤلفات ومجامع.

لقد آمن الأب متى المسكين أن الوحدة المسيحية يمكن أن تتحقق، ليس عن طريق الحوار المسكوني بالدرجة الأولى، ولكن عن طريق قديسي كل كنيسة، الذين بصلواتهم وسيرتهم سوف يلهمون قادة الكنائس ما يعينهم على إتمام الوحدة. وإني مع الأب متى المسكين أنظر إلى كل الحاضرين هنا، الذين ينشدون وحدتنا جميعاً في المسيح يسوع، أن بصلواتكم وبسيرة حياتكم ووحدتكم القلبية في المسيح يسوع، سوف يحقق لنا الرب الوحدة فيه ومع بعضنا البعض، وما اجتماعنا اليوم من كافة الكنائس في روح واحد إلا صورة مصغرة لكنيسة المسيح التي يريدها: لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي (يو 17: 21).

أخيراً، نصلي أن تعود الرهبنة لأصولها الأولى كما اشتاق أبونا متى وسعى في سبيل ذلك كل حياته. وهذا أيضاً ما تمناه قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، إذ صرح مراراً وتكراراً أن هذا هو ما يرجوه للرهبنة، لأن نهضة الكنيسة لن يتحقق دون النهوض بحياة الرهبنة.

 

اضغظ هنا للتحميل