علامة الصليب
عندما خرج الرسل الأطهار للكرازة في بلدان العالم المعروفة آنذاك، وآمن على أيديهم الكثير من كافة الشعوب، لاحظوا أن كلَّ شعب يميل أن يفتخر بأمجاده أو بطولاته أو أساطيره، أو حتى بآلهته المتمثلة في الأصنام التي كانت منتشرة في المعابد القديمة. فكان يجب على الرسل وهم في بداية تأسيس الكنائس المسيحية، أن يلفتوا انتباه المؤمنين الجدد أن افتخارنا كمسيحيين لا يكون بأشياء فانية، أو بأساطير وحكايات باطلة، بل يكون الافتخار بالإله الحقيقي وباسمه المبارك: «وَأَمَّا مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ» (2كو 10: 17).
ولم يكن افتخار الرسل بالربِّ ناتجاً عن الغيرة من افتخار الشعوب الوثنية بآلهتها، بل كانت نتيجة تعليم إلهي تربَّى الرسل عليه منذ نعومة أظفارهم، وذلك من استماعهم لكلام الله في كتب العهد القديم، التي كانت تُقرأ عليهم كل سبت في المجامع اليهودية:
«افْتَخِرُوا بِاسْمِهِ الْقُدُّوسِ. لِتَفْرَحْ قُلُوبُ الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ الرَّبَّ» (مز 105: 3).
«افْتَخِرُوا بِاسْمِ قُدْسِهِ. تَفْرَحُ قُلُوبُ الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ الرَّبَّ» (1أخبار 16: 10).
«هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: لاَ يَفْتَخِرَنَّ الْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ الْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ الْغَنِيُّ بِغِنَاهُ، بَلْ بِهَذَا لِيَفْتَخِرَنَّ الْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا الرَّبُّ، الصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلاً فِي الأَرْضِ، لأَنِّي بِهَذِهِ أُسَرُّ يَقُولُ الرَّبُّ» (إرميا 9: 23-24).
الافتخار بالصليب:
الافتخار بالرب وبأعمال الرب، تمنح الإنسانُ قوةً، وتملأ قلبه فرحاً، وتجعل له امتداداً رأسياً نحو مصدر القوة. هذا ما عاشه القديس بولس، وأحس به، فقرر أن يكون افتخاره بواحدٍ من أعظم أعمال الرب، الذي يبدو في منظره الخارجي ضعفاً، وفي حقيقته قوة: «الذي أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة» (لحن قدوس الله يُقال يوم الجمعة العظيمة).
لذلك يعلن القديس بولس صراحة: «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غلاطية 6: 14).
الافتخار بالصليب ليس نوعاً من الشعارات التي تطلقها بعض المجموعات كنوع من الرابطة بينهم، أو كشعار يتجمعون تحته؛ بل هو افتخار بقوة الصليب في حياتنا. لقد اختبرت الكنيسة قوة عمل الصليب في حياة أولادها، فحثتهم على التمسك بتلك العلامة كقوة ملازمة لنا طوال اليوم. ففي تعليم القديس كيرلس الأورشليمي للموعوظين (315-286م)، يقول: [فلا نَخْزَ إذن أن نعترف بالمسيح مصلوباً، بل ليت إشارة الصليب تكون ختماً نصنعه بشجاعة بأصابعنا على جبهتنا وعلى كل شيء، على الخبز وعلى كأس الشرب، في مجيئنا وذهابنا، قبل نومنا وعند يقظتنا، وفي الطريق وفي البيت].
وفي التسبحة اليومية تغرز الكنيسة هذا المفهوم في قلوبنا: [ربنا يسوع المسيح أعطى علامة لعبيده الذين يخافونه لكي يطفئوا قوة النار… لكي يُخرجوا الشاطين… هذا هو اسم الخلاص الذي لربنا يسوع المسيح وصليبه المحيي الذي صُلب عليه] (إبصالية يوم الجمعة).
قوة إشارة الصليب
يحتوي كتاب بستان الرهبان على قصة جميلة تلخص لنا كيف تمسك آباؤنا بإشارة الصليب، وكيف عمل الصليب في حياتهم:
قال (راهب) شيخٌ: «حدث أني كنتُ دفعةً سائراً في الصعيدِ مع رجلٍ إسماعيلي، وأمسى علينا الوقتُ، ولم نستطع أن نصلَ إلى مسكنٍ لنلتجئَ فيه إلى باكرٍ، وفيما نحن محتارون، خائفون من الوحوشِ، صادفتنا بربا عتيقةٌ، فدخلناها لنستريحَ إلى باكرٍ. وإني وقفتُ ورشمتُ علامةَ الصليبِ المقدسةِ من ناحيتي هذه، وهذه، ثم رشمتها أيضاً تحتي وفوق رأسي، ورقدتُ.
وفي نصفِ الليلِ، إذا بنا نسمعُ صهيلَ خيلٍ، وصياحاً، وخيالاً عظيماً، وقلقاً من الجنونِ، ورأيتُ واحداً أجلسوه على كرسي مثل والٍ، وأمر القيامَ بين يديه، وهم كالرقاصين، أن يدخلوا البربا حيث كنا راقدين، وأخرجوا الراقدَ معي، وضربوه حتى شارف الموتَ، وكانوا يقولون له: «أين هو الراقدُ معك»؟ فيقول لهم: «إنه في الموضع الذي كنتُ راقداً فيه».
أما أنا فصرتُ كالميتِ من الخوفِ الذي لحقني، وهم كلما اقتربوا مني ونظروا علامةَ الصليبِ، يهربون إلى خلفٍ، ويقعون على وجوههم. وكان الجالسُ على الكرسي يقول لهم: «ما بالكم لا تحضرونه»؟ فكانوا يقولون له: «إذا نحن دنونا منه، ننظرُ علامةَ الصليبِ، فلا نقدر أن نقفَ، بل نهرب إلى خلف، ونسقط على الأرضِ». فيقول لهم: «اصعدوا إلى الهواءِ، وانزلوا عليه من فوق، وائتوني به». فكانوا لما يأتون إليَّ، ينظرون العلامةَ على رأسي، فيهربون إلى خلف. ومكثتُ هكذا في هذا الانزعاج العظيمِ، حتى أشرق النورُ، حيث ذهبوا خائبين، تاركين ذلك الرجلَ قريباً من الموتِ. وقد عجبتُ إذ لم يقدروا الدنو مني وقلتُ: «سبحان السيد المسيح صاحب العلامة».
أما ذلك الرجل الذي ضربوه، فقد تعجب مني لما رآني، وقال: «لماذا لم يقدروا أن يضربوك، وقتلوني أنا (ضرباً)»؟، فأعلمتُه بعلامةِ الصليبِ المخلص الذي لسيدنا يسوع المسيح، فعندما سمع مني هذا، مضى وتعمَّد، وصار مسيحياً مختاراً، وأكمل عمرَه وهو لابسٌ السلاحَ، والمثال الذي لإلهنا يسوع المسيح» (بستان الرهبان، قول رقم 1220).