عيد الغطاس 2015

الميلاد الثاني

 

تكلمنا في عيد الميلاد المجيد عن آية سفر العبرانيين التي قُرأت علينا في قراءات البولس ليلة العيد، والتي تقول: «كُرْسِيُّكَ يَا أَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِزَيْتِ الاِبْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ شُرَكَائِكَ» (عبرانيين 1: 7-9).

وأوضحنا أن المقصود بشركائه، ملوك وأنبياء العهد القديم، الذين كانوا يُمسحون بزيت الزيتون، فيصيروا مسحاء لله. عن هؤلاء يقول الله: «لاَ تَمَسُّوا مُسَحَائِي وَلاَ تُسِيئُوا إِلَى أَنْبِيَائِي» (مزمور 105: 15).

كانت تلك المسحة تتم بالزيت الذي كان يُطلق عليه دهن المسحة أو قرن الدهن، أما الرب يسوع فقد مُسح بزيت الابتهاج (وباليونانية: زيت غليلاون)، إشارة إلى مسرة الله بتجسد ابنه وبعمله الكفاري، وأن خلاص الإنسان كان سببه الرئيسي محبة الله لخليقته، ومسرته في خلاصها. هذه المسحة بزيت الابتهاج تمت على نهر الأردن، عندما حل الروح القدس مثل حمامة. ونلاحظ أنه وقتها جاء صوت الآب من السماء ليعلن أن: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متى 3: 17). نلاحظ هنا التركيز على مسرة الله الآب بعمل الابن المتجسد.

ورسالة البولس التي سمعناها اليوم في قداس عيد الغطاس، وهي من رسالة معلمنا بولس الرسول لتلميذه تيطس (2: 11-3: 7)، توضح نفس هذا المفهوم، أن خلاص الإنسان تم نتيجة لمحبة الله لجنس البشر.

تتكون هذه القراءة من اثني عشر عدداً، الأعداد الأربعة الأولى والأربعة الأخيرة كانت عبارة عن نشيد ليتورجي يُتلى في الكنائس في القرن الأول، ونلاحظ فيه تكرار كلمة الإبيفانيا ثلاث مرات، دليل على أن ظهور الرب على الأرض كان ما يزال عالقاً في أذهان المؤمنين، وقد اقتبس القديس بولس هذا النشيد وأضاف إليه أربعة أعداد (2: 15-3: 3) تشرح وتوضح هذا النشيد.

11 – لأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ ἐπεφάνη  نِعْمَةُ اللهِ الْمُخَلِّصَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ،

هنا يشخصن النعمة، أي يجعلها شخصاً، تماماً مثلما شخصنها في رسالته إلى العبرانيين عندما تكلم عن عرش النعمة، أي عرش الله: «فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْناً فِي حِينِهِ» (عب 4: 16). وكما أيضاً شخصن القديس يوحنا الحياة في رسالته الأولى: «فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا» (1يو 1: 2). فهنا يتكلم عن شخص الرب يسوع، الله الكلمة، الذي كان عند الآب وأظهر لنا.

وكلمة ظهر هنا ἐπεφάνη  تعني أن الشيء كان مخفياً ثم ظهر، مثلما جاءت في سفر الأعمال (27: 20): «وَإِذْ لَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ وَلاَ النُّجُومُ تَظْهَرُ أَيَّاماً كَثِيرَةً».

نعمة الله المخلِّصة، أي نعمة الله الواهبة الخلاص أو المانحة الخلاص لجميع الناس.

واضح هنا من هذا الكلام أن الخلاص مقدم لجميع الناس، لذلك نراه يستعمل عبارة نعمة الله، أي أن الخلاص نعمة مقدمة لجميع الناس، وما على الإنسان إلا أن يقبل أو يرفض هذا الخلاص.

12-  مُعَلِّمَةً παιδεύοσα إِيَّانَا أَنْ نُنْكِرَ الْفُجُورَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَالَمِيَّةَ κοσμικὰς، وَنَعِيشَ بِالتَّعَقُّلِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي الْعَالَمِ الْحَاضِرِ νῦν αἰῶνι ،

معلمة إيانا παιδεύοσα ، ليس مجرد تعليم، بل تسليم وتربية وتهذيب. فهذا الفعل في العهد الجديد لا يعني مجرد يعلم، بل يربي ويهذب ويؤدب.

أن ننكر الفجور أي نتخلى عن أو نترك، والفجور عكس التقوى.

الشهوات العالمية، أي الشهوات التي تخص العالم المتغرب عن الله، في مقابل الفضائل التي تخص السماء، والتي يطالبنا أن نعيش بها هنا في العالم الحاضر νῦν αἰῶνι وهو يستعمل هذا التعبير ليذكرنا بالدهر الآتي، أي لنترك ما هو أرضي ونتمسك بما هو سماوي.

التعقل هو عكس الشهوات، أي ضبط النفس أو ضبط الذات، والبر أي بحسب متطلبات الناموس خاصة ما يخص محبة القريب، والتقوى أي القداسة في القول والفعل.

13- مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ ἐλπίδα الْمُبَارَكَ وَظُهُورَ ἐπιφάνειαν مَجْدِ اللهِ الْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ،

نلاحظ ارتباط الانتظار أو التوقع بالرجاء، مثلاً: «فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرٍّ» (غل 5: 5)؛ «وَلِي رَجَاءٌ بِاللَّهِ فِي مَا هُمْ أَيْضاً يَنْتَظِرُونَهُ: أَنَّهُ سَوْفَ تَكُونُ قِيَامَةٌ لِلأَمْوَاتِ الأَبْرَارِ وَالأَثَمَةِ» (أع 24: 15). لأن الكلمة اليونانية ἐλπίς  تعني الرجاء، وتعني أيضاً الشيء المرجو: «جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ» (أف 4: 4).

وحسب اليوناني فالأكثر ترجيحاً هنا هو ظهور مجد الله العظيم (أي) مخلصنا يسوع المسيح، وليس المقصود الآب والابن. وظهور ربنا يسوع المسيح المقصود به الظهور الثاني: «أَنْ تَحْفَظَ الْوَصِيَّةَ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ لَوْمٍ إلَى ظُهُورِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1تي 6: 14).

14- الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ ἑαυτῶ شَعْباً خَاصّاً غَيُوراً فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ

نقرأ في إنجيل يوحنا: «لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو 3: 16)؛ ونقرأ هنا: «الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا»، لنعرف توافق المشيئة بين الآب والابن، وأنه لم يكن هناك صراع لحل قضية وهمية استدعت الصليب.

ويطهر لنفسه شعباً خاصاً: بعد الصليب أصبحنا أطهاراً في عيني الرب، ولم تعد هناك نجاسة حسب الشريعة، وأصبح ما ينجس الإنسان فقط هو الخطيئة. فإن فقدنا صفة الطهارة، فقدنا صفة الخصوصية لله.

15- تَكَلَّمْ بِهَذِهِ وَعِظْ وَوَبِّخْ بِكُلِّ سُلْطَانٍ. لاَ يَسْتَهِنْ بِكَ أَحَدٌ

1- ذَكِّرْهُمْ أَنْ يَخْضَعُوا لِلرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينِ وَيُطِيعُوا، وَيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ،

2- وَلاَ يَطْعَنُوا βλασφημεῖν فِي أَحَدٍ، وَيَكُونُوا غَيْرَ مُخَاصِمِينَ، حُلَمَاءَ، مُظْهِرِينَ كُلَّ وَدَاعَةٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ

لا يطعنوا، أي لا يجدفوا على أحد، أو لا يهينوا أحداً، صفات بسيطة تتركز جميعها في محبة القريب ومعاملته بكل ود وصبر ووداعة. ونلاحظ أن هذه الصفات هي نفسها التي تحلى بها الرب يسوع والتي من أجلها تجسد لأجل خلاصنا، كما نرى في العدد 4 القادم، عندما يتكلم عن لطف الله وإحسانه.

3- لأَنَّنَا كُنَّا نَحْنُ أَيْضاً قَبْلاً أَغْبِيَاءَ، غَيْرَ طَائِعِينَ، ضَالِّينَ، مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَوَاتٍ وَلَذَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَائِشِينَ فِي الْخُبْثِ وَالْحَسَدِ، مَمْقُوتِينَ، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضاً

صفات الإنسان العتيق قبل المعمودية، وهي صفات ثقيلة في مقابل الصفات السابقة. ومن لا يقدر أن يتحلى بصفات محبة القريب السابقة، فربما يجد نفسه وقد وقع فريسة الإنسان العتيق بكل ما يحمله من صفات أصبحت غريبة عن الطبيعة الجديدة التي أخذناها في المعمودية.

4- وَلَكِنْ حِينَ ظَهَرَ ἐπεφάνη لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللهِ وَإِحْسَانُهُ φιλανθρωπία

كلمة الإحسان هنا هي ترجمة لكلمة φιλανθρωπία، والتي تعني محبة البشر، ترتبط صفات الله التي يذكرها هنا: اللطف والمحبة لجميع الناس، بالصفات التي يطلبها في عدد 2: حلماء ومظهرين كل وداعة لجميع الناس. فمحبة الله لجميع الناس التي هي السبب الرئيسي وراء تجسده وخلاصه للبشر، تقتضي محبتنا نحن لجميع الناس. فإن كان الله قد غُلب من تحننه، كما نقول في التسبحة اليومية، وتنازل وأخذ شكل العبد، من أجل محبته للبشر، فهل يصعب على العبد أن يحب العبد رفيقه؟

5- لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا بِغَسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي παλιγγενεςίας وَتَجْدِيدِ ἀνακαινώσεως الرُّوحِ الْقُدُسِ،

ليس أننا عملنا أعمال بر فرفضها الله، وخلصنا بمقتضى رحمته، بل أننا لم نعمل أعمال بر، وبالرغم من ذلك خلصنا بمقتضى رحمته ومحبته للبشر. الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله، ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد.

ووسيلة خلاصنا، أو الواسطة التي وصل لنا الخلاص كان من خلال  διά غسل الميلاد الثاني، أي المعمودية، وحلول الروح القدس. «لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ» (أف 5: 26). المعمودية ببساطة هي الميلاد الجديد أو الولادة الثانية. وتجديد الروح القدس أي أننا بالولادة الثانية نصير خليقة جديدة: «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كو 5: 17).

6- الَّذِي سَكَبَهُ بِغِنًى عَلَيْنَا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا

الذي، أي الروح القدس، سكبه علينا، (مقتبسة من (يوئيل 2: 28) «أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ»)، فليس بكيل يعطي الله الروح، بل بغنى.

7- حَتَّى إِذَا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ نَصِيرُ وَرَثَةً حَسَبَ رَجَاءِ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ

نتيجة طبيعية للولادة الثانية، والخلقة الجديدة، أن نكون ورثة لله، ووارثون مع المسيح.

اضغظ هنا للتحميل