عظة عيد الميلاد بالقدس
عظة عيد الميلاد
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين
في البدايةِ أَوَدُّ أن أتوجَّه بالشكر لفخامة السيد الرئيس محمود عباس الذي حضر بنفسه للتهنئة بعيد الميلاد المجيد
كما أتقدم بالشكر للسيد السفير
يسعدني أن أنقل لكم تهنئة قداسة البابا المعظم أنبا تواضروس الثاني بعيد ميلاد ربنا يسوع المسيح، مصلين جميعاً أن يلهمَه الربُّ في اختيار من يقوم بمهام رعاية هذه الإيبارشية، متذكرين نيافة مثلث الرحمات المتنيح أنبا أبراهام، الذي شهد له الجميع بمحبته وحكمته ورعايته وتفانيه، سائلين الرب أن ينيح نفسه في فردوس النعيم، وأن يقيم راعياً صالحاً يكمل المسيرة من بعده.
رسالة عيد الميلاد
أهنئكم بعيدِ الميلاد المجيد، عيد تجسد ربِّنا يسوعَ المسيح.
وأنقل لكم كلمات الإنجيل المقدس: «لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ، أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ (لو 2: 10و11).
هذا هو بدايةُ إنجيلِنا المقدس،
رسالةُ عزاءٍ تبشرنا بها الملائكة: لا تخافوا،
رسالةُ فرحٍ معلنةً من السماء: ها أنا أبشركم بفرح عظيم،
وبشرى خلاصٍ للبشريةِ كلِّها: وُلد لكم مخلِّصٌ، وأيُّ مخلِّصٍ، هو المسيحُ الربُّ.
وهل ميلادُ المخلصِ يجلبُ لنا العزاءَ والسلامَ والفرحَ؟ وهل كانت البشريةُ في احتياجٍ لمثل هذا المخلِّصِ؟
دعونا نرجعُ إلى بدايةِ الخليقةِ لنفهمَ احتياجَ الشعبِ للمخلِّصِ، المخلص الذي هو المسيح الرب.
يقول لنا الكتاب المقدس في سفر التكوين: فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: “أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ وَأَخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ” (تك 1: 27-28).
وهكذا خَلق اللهُ الإنسانَ على صورتِهِ، وأعطاه السلطانَ أن يتسلطَ على كلِّ الخليقةِ، وأن يرعاها ويسوسها، أي أن اللهَ أعطاه من سلطانِه الخاص، قاصداً في نفسِهِ منذ الأزلِ أن يصيرَ الإنسانُ شريكاً للهِ في ملكوتِه؛ كما أعطاه أن يحيا إلى الأبدِ، لأنه أعطاه الحريةَ أن يأكلَ من شجرةِ الحياةِ. وقد تسجَّل هذا في سفرِ الحكمةِ: «أن اللهَ خلق الانسانَ خالداً وصنعه على صورةِ ذاتِه» (الحكمة 2: 23)، أو كما نقول في القداس الإلهي: يا اللهُ العظيم الأبدي الذي خلق الإنسانَ على غير فسادٍ، أي على الخلود.
ثم أعطى اللهُ الإنسانَ وصيةً:
«وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ قَائِلاً: مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً. وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تك 2: 16-17).
فعاش آدم وحواء في جنةِ الله، وتمتع بخيرات الله، إلى أن حسدَ الشيطانُ الإنسانَ، وألقى في روعِهِ الشكَّ من جهة كلامِ الله، قائلاً:
«بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ» (تك 3: 5). وهكذا خدع الشيطانُ الإنسانَ الأولَ، مُقنِعاً إياه أنه يمكنه أن يكونَ مثلَ اللهِ، ولكن بمعزلٍ عن الله. فخالف الإنسانُ الوصيةَ، وجلب على نفسِه حُكمَ الموتِ. أو كما يقول القديس بولس الرسول:
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ (رو 5: 12).
وهكذا طُرد الإنسانُ من الفردوس، خاضعاً للموتِ منذ اللحظةِ الأولى، الموت الروحي الذي هو الانفصالُ عن اللهِ، والتغرب بعيدًا عنه. وهكذا سرى الموتُ في الخليقةِ الأولى، وبدلاً من الوعدِ بالحياةِ في فردوس الله، انحدر الإنسانُ إلى عالمِ الشقاءِ والمرض، وملك الموتُ عليه وعلى ذريتِه من بعدِه. فكان الإنسانُ يُولد ليعيشَ على الأرضِ موتَه، ثم يرحلُ متغرباً عن اللهِ.
ولأن النتيجةَ المباشرةَ لخطيئةِ الإنسانِ الأول هو الموتُ، لذلك لم تكن التوبةُ كافيةً لعلاج المشكلةِ، فالتوبةُ تؤثر على ما بعدها وليس على ما قبلِها، أي أنَّ التوبةَ تعطي القدرةَ أو الحافزَ على عدم معاودة الخطيئةِ، لكن آثارَ الخطيئةِ التي اقترفها الإنسانُ تحتاجُ إلى تدخلِ اللهِ لعلاجِها. فكان الاحتياجُ إلى المخلصِ الذي يعطينا الخليقةَ الجديدةَ، أو الحياةَ الأبديةَ في معيةِ الله، التي فقدناها عندما خرجنا من حضرتهِ، ونُفينا بعيداً عن المشاركةِ في تسبيحهِ مع ملائكتهِ القديسين.
وهذا هو سببُ الفرحِ الذي دخل إلى العالمِ اليومَ بميلادِ الربِّ يسوعَ المسيح، ليس فرحُ الإنسان فقط، بل وفرحُ الملائكةِ أيضاً بعودةِ الإنسانِ لخورس المسبحين. لذلك نسمعُ تهليلَ الملائكةِ يومَ ميلادِ الربِّ يسوعَ: «الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (مت 2: 14). وهذا هو مضمونُ البشارةِ التي أعلنها الملاكُ للرعاةِ: فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ، أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. (لو 2: 10و11).
إن يومَ ميلادِ الربِّ يسوعَ هو بدءُ دخولِ الفرح الروحي لعالمنا، هذا الفرحُ الذي سيكتملُ بالفداءِ الذي سيحقِّقَه لنا الربُّ يومَ قيامتهِ من بين الأموات، منتصراً على الموت، معطياً إياناً الخليقةَ الجديدةَ والحياةَ الأبديةَ في حضرةِ اللهِ وملائكتهِ وقديسيه.
لقد عبَّر القديسُ أنبا مقار الكبير عن فَرحَتِهِ بميلادِ الربِّ يسوعَ قائلاً:
[في هذا اليوم وُلِدَ الربُّ الذي هو حياةُ وخلاصُ البشرِ.
اليومَ تمت مصالحةُ اللاهوتِ مع الناسوت
والناسوتِ مع اللاهوت،
اليوم ارتكضت الخليقةُ كلُّها،
اليوم صار للناس طريقٌ نحو الله،
وصار لله طريقٌ نحو النفس …
لقد كَمَلَ زمانُ القيودِ والحبسِ والظلامِ الذي حُكم به على آدم.
فاليومَ جاءه الفداءُ والحريةُ والمصالحةُ
والشركةُ مع الروحِ والاتحادُ بالله!
اليوم رُفع العارُ من على جبينِه،
وأُعطيت له دالةً لينظرَ بوجهٍ مكشوفٍ فيتحدَ بالروحِ!
اليومَ تستقبلُ العروسُ (البشرية) عريسها،
اليوم تمَّ الاتحادُ والشركةُ والمصالحةُ بين السمائيين والأرضيين،
ذلك الاتحاد الذي هو بعينِه الإلهُ المتأنِّس!
لقد لاق به أن يأتي لابساً الجسدَ
حتى يستردَ الناسَ ويُصالحهم مع أبيِه!]
عظة 52: 1-2 على عيد الميلاد
في عيد ميلاد الرب يسوع نصلي أن يملكَ الحبُّ على حياة ِكلِّ أحدٍ، ويدخلَ الفرحُ قلبَ كلِّ إنسان، الفرحُ الروحي بخلاص الإنسان من العبوديةِ للخطيئةِ ولسطوة الشرِّ وتملكه في حياةِ البشرِ،
نصلي أن يعمَّ السلامُ جميعَ أرجاءِ العالمِ، خاصةً في منطقِتنا العربيةِ التي تعاني من ويلات الإرهاب والكراهية،
نصلي أن يشملَ الربُّ برعايتهِ ومحبتهِ جميعَ الأسرِ التي تأثرت من ويلات الحروب واضطرت أن تتركَ منزلَها ووطنَها للبحثِ عن ملجإ آمن،
نصلي أن يشملنا جميعاً الفرحُ والسلامُ في عيدِ المحبةِ والسلامِ،
نسألُ اللهَ أن يعيدَ علينا هذه الأيام ونحن جميعاً في ملء الفرحِ والنعمةِ والسلام، وكل عام وأنتم جميعاً بخير.