عيد الصعود

قداس الذكرى العاشرة لنياحة الأب متى المسكين

تحتفل الكنيسة في هذه الأيام بأعياد هامة في حياتنا. فنحن الآن نعيش أفراح القيامة باحتفالنا بأيام الخمسين المقدسة، وبالأمس الخميس احتفلنا بعيد الصعود المجيد، واليوم الجمعة نحتفل بعيد نياحة القديس أنبا أبرام أسقف الفيوم، الذي تنيح يوم العاشر من يونية عام 1914م. كما نحتفل اليوم بالذكرى العاشرة لنياحة الأب متى المسكين. وبقدر ما كان يعشق الأب متى المسكين عيد الصعود ويربطه بحياتنا الرهبانية، أو حسب قوله: [أما لنا نحن الرهبان، فالصعود الذي يمثل أوج النصرة على العالم، هو عيدنا الذي نرى فيه أنفسنا تطير فوق هموم الدنيا وأوهامها وغرورها]. هكذا أيضاً كان يحب جداً القديس أنبا أبرام، وكانت يحتفظ بصورة خاصة به في قلايته، وما زالت هذه الصورة في مكانها حتى اليوم. وأعتقد أنه اتخذ من سيرة أنبا أبرام ومحبته للفقراء مثالاً له في حياته عندما فكر في تأسيس مشروع الملاك لخدمة الفقراء.

هذه مقدمة بسيطة توضح سبب اجتماعنا اليوم حول سر الإفخارستيا، واسمحو لي الآن أن أقدم تأملاً في إنجيل قداس هذا اليوم.

من المهم أن نعرف أن كنيستنا القبطية اعتادت أن تشرح لنا المفاهيم الإيمانية والإنجيلية، ليس شرحاً فلسفياً أو منهجياً، بل شرحاً ليتورجياً. أي أنها عندما تريد تبسيط حقائق الإيمان أمامنا، تشرح لنا هذا الإيمان في صورة قراءات أو ألحان كنسية، بسيطة في كلماتها، عميقة في معانيها، تضع في داخلها أهم ما تريد أن توضحه لنا. وسأوضح كيف رتبت لنا الكنيسة قراءة إنجيل هذا اليوم لتشرح لنا مفهوم عيد الصعود.

منذ أكثر من أربعين سنة، وبالتحديد في ليلة عيد القيامة من عام 1973، ألقى أبونا المتنيح القمص متى المسكين عظةً في عيد القيامة بعنوان: يوم القيامة يوم الخليقة الجديدة، وقد اشتهرت هذه العظة تحت عنوان: لا تلمسيني. وقد ركز كلمته على مقابلة الرب يسوع بعد قيامته مع مريم  المجدلية عند القبر، عندما قال لها: «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ avnabai,nw إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ» (يو 20: 17).

اختلف مفسرو الكتاب المقدس في شرح تلك الكلمات، لقد قال الرب لمريم المجدلية حسب ما جاء في إنجيل القديس يوحنا: لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. في حين أنه في باقي أحداث القيامة نعرف أنه سمح للمريمات بعد ذلك أن يمسكن بقدميه، كما يقول إنجيل القديس متى: «وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمَا. فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ. فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: لاَ تَخَافَا. اذْهَبَا قُولاَ لِإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي» (مت 28: 9-10). بل بعد ظهوره للتلاميذ في العلية طلب هو نفسه من توما الرسول أن يضع إصبعه في أثر المسامير وأن يُدخل يده في أثر الطعنة (يو 20: 27).

وقد أوضح أبونا متى وقتها من رد الرب يسوع على مريم المجدلية عندما قال لها: إني أصعد إلى أبي وأبيكم، أن المقصود بكلمة إني أصعد، أنني على وشك الصعود الآن لأتراءى أمام الله الآب وأنا حامل في جسدي كل البشرية التي اتحدتُّ بها لأقدمها لله الآب، خليقةً جديدةً مبررة ومبرأةً. خليقة جديدة يحملها في جسده، ليجلسها معه عن يمين الله الآب، أو حسب تعبير القديس بولس الرسول: «أَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أف 2: 6).

لقد قال لمريم لا تلمسيني، لأن عينيها لم تكن انفتحتا بعد على الخليقة الجديدة؛ لقد أرادت أن تلمس المسيح كما كانت تلمسه قديماً، باعتباره الإنسان المعلم، الذي شفاها من أمراضها وأخرج منها الشياطين. فأراد الرب يسوع أن يضع حداً فاصلاً بين الخليقة العتيقة والخليقة الجديدة، الحياة الأرضية والحياة السماوية.

وكأني به أراد أن يقول لها، إن كان كلُّ ما تشتهينه أو تريدينه هو أن تلمسيني أو تمسكي فيَّ كعلامة للمحبة الأرضية، فأنت مخطئة، فأنا أحملك الآن أنت وكل الخليقة فيَّ، وأنا سأصعد حالاً إلى أبي متحداً بكل الخليقة الجديدة لأقدمها لله الآب. أنا سأصعد إلى الآب، وفي الحقيقة هي التي ستصعد فيه.

وهنا ثارت التساؤلات: هل صعد الرب يسوع بعد قيامته مباشرة إلى السماء، حسب ما أوضح أبونا متى، أم بقي مختبأً في مكان ما لمدة أربعين يوماً، يخرج من مخبأه ليظهر لتلاميذه ثم يعود ويختبئ من جديد. طبعاً الشرح واضح من كلمات أبونا متى أن الرب صعد بعد قيامته مباشرة وتراءى أمام الله الآب، وكان يظهر لتلاميذه ولباقي المؤمنين حتى اليوم الأربعين من قيامته، حين صعد نهائياً أمام تلاميذه وأخذته سحابة أمام أعينهم، وظلوا شاخصين نحوه حتى توارى عن أنظارهم.

دعونا نتأمل في إنجيل هذا اليوم، وهي القراءات التي وضعتها لنا الكنيسة، كقراءات ثاني يوم عيد الصعود، لتربط لنا بين قيامة الرب من بين الأموات وصعوده، ثم حلول الروح القدس يوم الخمسين. وسوف نلاحظ كيف تشرح لنا الكنيسة مفهوم الصعود بمجرد أن تورد لنا هذه الآيات في هذا الوقت.

قراءة اليوم هي ست آيات فقط من الأصحاح الرابع عشر من إنجيل القديس يوحنا (يو 14: 26-31):

26- «وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ. 27- سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ. 28- سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ u`pa,gw kai. e;rcomai.  لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي. 29- وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ. 30- لاَ أَتَكَلَّمُ أَيْضاً مَعَكُمْ كَثِيراً لأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ. 31- وَلَكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هَكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا».

يجب أن نلاحظ أن هذه الكلمات قالها الرب يسوع المسيح ليلة صلبه مباشرة، أي يوم الخميس الكبير مساءً بعد أن أسس سر الإفخارستيا، فقد قال لتلاميذه: «الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ» (يو 13: 31). ثم ألقى عليهم هذا الحديث الطويل الذي انتهى بصلاته لله الآب التي وردت في إنجيل القديس يوحنا الأصحاح السابع عشر.

في الإنجيل الذي قرأناه اليوم يتكلم أولاً عن إرسالية الروح القدس، ثم عن السلام الذي سيمنحه الربُّ للتلاميذ أولاً كعطية خاصة بهم: سلامي أعطيكم، ثم كميراث ليسلموه لجميع المؤمنين: سلامي أتركه لكم. ثم نأتي للآية التي تهمنا اليوم وهي: أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ. ثم يقول بعدها: وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ.

واضح هنا أنه سيذهب ثم يأتي إليهم هم، حتى يؤمنوا هم أنفسهم. وأن صعوده وشيك الحدوث، أو كما يقول القديس كيرلس الكبير في تفسيره هذه الآية، أنه مزمع أن يصعد حالاً. معنى هذا أنه لا يتكلم عن مجيئه الثاني في نهاية الدهور. بل هو يتكلم معهم أنه سيأتي إليهم هم بعد ذهابه عنهم، وأنهم سيفرحون عندما يرونه، ليس فقط بسبب قيامته من بين الأموات، ولكن أيضاً بسبب صعوده وهو يحملهم في جسده القائم ليجلسهم عن يمين أبيه.

وهذا ما حدث بالفعل، فبعد قيامته مباشرة صعد إلى السماء ثم بدأ في الظهور للمريمات وللتلاميذ فرادى، ثم عاد وظهر لهم وهم مجتمعون في العلية والأبواب مغلقة. انظروا ماذا يقول الكتاب في هذه الحادثة وحاولوا أن تربطوها بقراءة إنجيل اليوم، وهي أيضاً من إنجيل القديس يوحنا (20: 19-23):

«وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسَطِ وَقَالَ لَهُمْ: «سلاَمٌ لَكُمْ». وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «سلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا». وَلَمَّا قَالَ هَذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: «أقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ».

يكرر الرب هنا كل ما قاله في حديثه معهم قبل آلامه، أولاً، فقد ذهب كما قال ثم أتى إليهم؛ ثانياً أعطاهم السلام كعطية شخصية لهم«سلاَمٌ لَكُمْ»؛ ثالثاً فرح التلاميذ لما رأوا الرب؛ رابعاً كرر السلام مرة أخرى كميراث للكنيسة كلها: «سلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا»؛ ثم أخيراً قال لهم اقبلوا الروح القدس، كما وعدهم سابقاً في بدء حديثه معهم.

واضح من القراءات التي وضعتها لنا الكنيسة اليوم في ثاني يوم عيد الصعود لتشرح لنا أهمية عيد الصعود في حياتنا، أنها تشرح لنا صعود الرب للسماء أولاً وهو يحملنا في جسده ليقدمنا لله أبيه، ثم صعوده النهائي بالجسد ليبقى متحداً بهذا الجسد الذي يمثل البشرية كلها حتى يكمل فرحنا وفرح الكنيسة كلها بالجلوس عن يمين الآب والتواجد المستمر في حضرته.

وأختم كلمتي بشرح لمعنى عيد الصعود عندنا كرهبان، من كلمة عن صعود المسيح، لأبينا متى المسكين كتبها عام 1979، ربما تشرح هذه الكلمة وتفسر الكثير من سلوكه ومن حياتنا:

[الراهب الحقيقي هو (الذي) يعيش عيد الصعود مكتفياً بما فوق، وبالروح والحق، كل أيامه. لا يخشى شيئاً ما على الأرض: لا شدةَ ولا ضيقاً ولا اضطهاداً، ولا جوعاً ولا عرياً ولا خطراً ولا سيفاً، وهو لا يشتهي شيئاً ما مما على الأرض: لا كرامةً ولا صداقة ولا رئاسة ولا سلطاناً ولا مديحاً ولا اسماً ولا شكلاً ولا لقباً، لأنه يغتذي سراً بما فوق من طعام الحق وشراب الحب الذي كل من يغتذي به ينسى كل ما في هذا الدهر، ينسى أهله وينسى وطنه وينسى حتى نفسه.

كل إنسان في المسيح يترجى حياة الدهر الآتي حسب قانون الأمانة العام، أما الراهب يا إخوة فهو إنسان يعيش الدهر الآتي لأنه مات عن هذا الدهر الفاني. الصعود ليس عيدَنا – نحن الرهبان – وحسب، بل هو عملنا اليومي تجاه هذا الدهر وهو حياتنا الوحيدة التي تبقت لنا].

نيح الله نفس أبينا الروحي القمص متى المسكين، ونفعنا بصلاته عنا وعن كل الكنيسة، ولتكن ذكراه وسيرته وتعاليمه بركة لحياتكم جميعاً، ولإلهنا كل المجد في كنيسته من الآن وإلى منتهى الدهور، آمين.

اضغظ هنا للتحميل