من هو الأكبر
من هو الأكبر
قيلت في مارس 2016 لرهبان دير أنبا مقار
في يوم الخميس الكبير، المعروف باسم خميس العهد، أسس ربنا يسوع المسيح سر الإفخارستيا، سر كسر الخبز وسفك الدم الكريم. فيخبرنا إنجيل القديس لوقا بأحداث هذا اليوم قائلاً: «وَأَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: هَذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي. وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ».
ثم يقول بنبرة حزن: «وَلَكِنْ هُوَذَا يَدُ الَّذِي يُسَلِّمُنِي هِيَ مَعِي عَلَى الْمَائِدَةِ. وَابْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ. فَابْتَدَأُوا يَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَنْ تَرَى مِنْهُمْ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا؟» (لوقا 22: 19 – 23).
كيف يستقيم هذا السر، سر البذل والعطاء حتى الموت، مع الخيانة.
عندما سلَّم الرب يسوع لتلاميذه سرَّ الإفخارستيا، سلَّمهم سرَّ حياته بما تشمله من تواضع وإنكار ذات وإخلاء وتخلي عن كل مجد وكرامة، وخضوع وقبول لسر الآلام والصليب حتى الموت.
لكن كانت المفاجأة الكبرى والحزينة التي واكبت هذا السر، أن التلاميذ جميعهم، نعم جميعهم، لم يفهموا وقتها ما هو سر الإفخارستيا.
فهل مع سر البذل حتى الموت، نتقابل مع خيانة تلميذ ائتمنه الرب على الصندوق، أي على الأمانة التي يصرف منها على معيشتهم، وفي نفس الوقت يعطي منها للمحتاجين والمعوزين (يو 13: 29). بغض النظر عن الدافع الحقيقي وراء الخيانة، هل من أجل المال، أم من أجل التقرب للرؤساء، أو من أجل أسباب سياسية قومية تخص خلاص اليهود من الرومان، فالخيانة كانت رفضاً لسر الإفخارستيا، سر البذل والعطاء حتى الموت.
أما باقي التلاميذ فقد «كَانَتْ بَيْنَهُمْ أَيْضاً مُشَاجَرَةٌ، مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ». في ليلة الصليب والموت، يتشاجرون من منهم الأول ومن منهم الأعظم، ومن يستحق المتكأ الأول، أي من منهم الأحق بالمنصب الأول عند توزيع المناصب والكرامات والأنصبة.
فابتدأ الرب يعلمهم أن من يريد الجري وراء الكرامات الوقتية الأرضية، ليس له مكان على مائدة البذل والعطاء. أليس في شريعة الشعوب أن: «مُلُوكُ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ وَالْمُتَسَلِّطُونَ عَلَيْهِمْ يُدْعَوْنَ مُحْسِنِينَ» (لوقا 22: 24). هذا المبدأ ليس بمرفوض في العمل الاجتماعي والسياسي، ولكن ليس في العمل الروحي القائم والمؤسس على سر الإفخارستيا. إن من يشترك في مائدة الرب يجب أن يتبع هذه القاعدة: «الْكَبِيرُ فِيكُمْ لِيَكُنْ كَالأَصْغَرِ وَالْمُتَقَدِّمُ كَالْخَادِمِ، لأَنْ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ؟ أَلَّذِي يَتَّكِئُ أَمِ الَّذِي يَخْدِمُ؟ أَلَيْسَ الَّذِي يَتَّكِئُ؟ وَلَكِنِّي أَنَا بَيْنَكُمْ كَالَّذِي يَخْدِمُ.» (لوقا 22: 25 – 27).
ما أسهل الكلام، وما أسهل التعبيرات التي تصف التواضع.
هذا ليس كلاماً، بل هو سر حياة. والآن سأعطيكم نفسي مثالاً في التواضع، حتى تقدروا أن تستوعبوا مثال البذل حتى الموت، موت الصليب: «فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ. يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي. قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا. ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا» (يوحنا 13: 1-5).
هذا هو سر التواضع الحقيقي، سر طريق احتمال الصليب. فإن لم نسلك أولاً هذا السر، سر غسل الأرجل، سر التواضع للإخوة الصغير منهم قبل الكبير، لن يمكننا أن نحمل الصليب ونخرج وراءه. فعندما أمرنا الرب أن نحمل صليبه، اشترط أولاً أن ننكر ذواتنا (لوقا 9: 23)، وإلا سيكون طريق حمل الصليب طريقاً مزيفاً، له شكل الاشتراك في الألم، ولكنه في الحقيقة مظهر خارجي لتغذية الذات بمديح المارة ولنوال استحسان المشاهدين.
طريق الصليب أوله غصة ألم ومرارة نفس، لكن نهايته التمتع بالأمجاد السماوية والشركة مع الرب بالجلوس في حضرته في ملكوته: «أَنْتُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي. وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً. لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاِثْنَيْ عَشَرَ» (لوقا 22: 28-30).
إن طريق إنكار الذات وقبول الصليب ينتهي حتماً بأمجاد القيامة والنصرة على الخطية والموت.