بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلَهِنَا

تكلم موسى النبي في نهاية حياته وخاطب شعب إسرائيل قائلاً: «فَاسْأَل عَنِ الأَيَّامِ الأُولى التِي كَانَتْ قَبْلكَ، مِنَ اليَوْمِ الذِي خَلقَ اللهُ فِيهِ الإِنْسَانَ عَلى الأَرْضِ، وَمِنْ أَقْصَاءِ السَّمَاءِ إِلى أَقْصَائِهَا، هَل جَرَى مِثْلُ هَذَا الأَمْرِ العَظِيمِ أَوْ هَل سُمِعَ نَظِيرُهُ»؟ (تث 4: 32).

ونتساءل اليوم بنفس سؤال موسى النبي: هَل جَرَى مِثْلُ هَذَا الأَمْرِ العَظِيمِ أَوْ هَل سُمِعَ نَظِيرُهُ أن الإله يأخذ جسداً بشرياً ويتنازل ليعيش بين البشر؟

لقد كانت هذه أمنية الكثير من أنبياء العهد القديم، الذين رأوا محنة الإنسان، ورأوا الهوة العظيمة التي تفصله عن خالقه، فصرخ أحدهم قائلاً: «لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ! مِنْ حَضْرَتِكَ تَتَزَلْزَلُ الْجِبَالُ» (إش 64: 1). كانت هذه صرخة إشعياء النبي، وقبله صرخ داود قائلاً: «يَا رَبُّ طَأْطِئْ سَمَاوَاتِكَ وَانْزِلِ. الْمِسِ الْجِبَالَ فَتُدَخِّنَ» (مز 144: 5).

وهكذا استجاب الرب لصراخ الأنبياء، بل وأعلن لإرميا النبي أنه سوف ينزل ليفتقد شعبه: «كَمَا يَفْتَقِدُ الرَّاعِي قَطِيعَهُ يَوْمَ يَكُونُ فِي وَسَطِ غَنَمِهِ الْمُشَتَّتَةِ، هَكَذَا أَفْتَقِدُ غَنَمِي وَأُخَلِّصُهَا مِنْ جَمِيعِ الأَمَاكِنِ الَّتِي تَشَتَّتَتْ إِلَيْهَا فِي يَوْمِ الْغَيْمِ وَالضَّبَابِ» (حز 34: 12)، وهذا ما أحس به الشعب عندما تجسد الرب وافتقد بنفسه رعيته التي وجدها كغنم لا راعٍ لها: «فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ» (لو 7: 16).

لقد كانت محبة الله لخليقته أعظم كثيراً من أن يرعاها من على بعدٍ، أو من علو سماه. فالله العظيم الجبار الذي كان ينزل على الجبل فيُدخِّن بالنار، هو نفسه الإله المحب الوديع الذي يخاطب النفس البشرية قائلاً: «حَوِّلِي عَنِّي عَيْنَيْكِ فَإِنَّهُمَا قَدْ غَلَبَتَانِي» (نش 6: 5)؛ وعن هذا المعنى تقول التسبحة القبطية (في يوم الاثنين): [افرحوا وتهللوا يا جنس البشر، لأنه هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الحبيب عن المؤمنين به، لكي يحيوا إلى الأبد. لأنه غُلب من تحنُّنه وأرسل لنا ذراعه العالية، أشرق جسدياً من العذراء بغير زرع بشر حتى خلصنا]. نعم، لقد غُلب من تحنُّنه، وأظهر لنا تحننات قلب الله من نحونا، أو حسب تعبير زكريا الكاهن: «بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلَهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا» (لو 1: 78).

طوباك يا أمنا العذراء مريم، يا من عن طريقك تحققت نبوءات الأنبياء، وتجسد منك مُشتهى كل الأمم (حج 2: 7). فهكذا تطوِّبك الكنيسة في تسبحة يوم الخميس قائلةً: [لأن (العذراء) مكرمةٌ جداً عند جميع القديسين ورؤساء الآباء، لأنها أتت لهم بمن كانوا ينتظرونه. كذلك (يُكَرِّمها) الأنبياءُ الذين تنبأوا من أجله بأنواع كثيرة وأشياء شتى بأنه يأتي ويخلصنا].

 

اضغظ هنا للتحميل