الصوم البتولي

رتبت كنيستنا القبطية فترات من العام لتكون أيام صوم ونسك وعبادة أمام الرب، لتهيئة المؤمنين لاستقبال الأعياد السيدية، أو أعياد القديسين، بروح التوبة والخشوع. وأشهر مثال على ذلك هو الصوم المقدس، الذي يعقبه أسبوع الآلام ثم عيد القيامة المجيد.

أما صوم الميلاد الذي يليه عيد الميلاد المجيد، فهو يختلف عن باقي الأصوام الكنسية.

صوم الميلاد ليس صوماً للاعتكاف والتوبة والنسك بالدرجة الأولى، بل هو صوم للتسبيح والتهليل، احتفالاً بتجسد الله الكلمة، واتحاده بنا، ومجيئه إلى أرضنا، ليعلن لنا عن محبة الله الآب:  «أَكْثَرْتَ الأُمَّةَ. عَظَّمْتَ لَهَا الْفَرَحَ. يَفْرَحُونَ أَمَامَكَ كَالْفَرَحِ فِي الْحَصَادِ. كَالَّذِينَ يَبْتَهِجُونَ عِنْدَمَا يَقْتَسِمُونَ غَنِيمَةً… لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ السَّلاَمِ» (إش 9: 3-6).

إن صوم الميلاد أشبه بأيام ما قبل العُرس، عندما تتهيأ العروس لاستقبال عريسها: «وَكَفَرَحِ الْعَرِيسِ بِالْعَرُوسِ يَفْرَحُ بِكِ إِلَهُكِ» (إش 62: 5). إنه صوم نهيئ فيه أنفسنا لاستقبال العريس السماوي: «هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ!» (مت 25: 6).

وبالإضافة إلى التسابيح والأناشيد المفرحة التي رتبتها الكنيسة لنسهر طوال ليالي الصوم، استعداداً لاستقبال الرب الآتي متجسداً، وضعت لنا الكنيسة قراءاتٍ من سفر المزامير تدور جميعها حول انتظار مجيء الرب ونزوله إلى أرضنا.

ففي قراءات الأحد الأول من شهر كيهك تقابلنا هذه القراءات:

مزمور عشية الأحد الأول، تضرُّع إلى الرب ليفتقد شعبه بعد طول زمان من الهجر: «إلى متى يارب تنساني إلى الانقضاء، حتى متى تصرف وجهك عنى، انظر واستجب لي يا ربى وإلهي، أنر عيني» (13: 1و3).

ثم مزمور باكر، استجابة مباشرة من الرب نتيجة لطلب شعبه: «نظر الربُّ من السماء على الأرض، ليسمع تنهد المغلولين، ليخبروا فى صهيون باسم الرب، وبتسبحته فى أورشليم» (102: 19-21).

وفي مزمور القداس، يحسُّ الشعب بسرعة استجابة الرب، وإن كانت لم تتم بعد: «أنت يارب ترجع وتترأف على صهيون، لأنه وقت التحنن عليها، لأن الربَّ يبنى صهيون، ويظهر مجده» (102: 13و16).

ثم تأتي قراءات مزامير الأحد الثاني، لتوضح هذه الفكرة أكثر.

ففي مزمور عشية نلتمس من الرب أن ينزل ويتجسد على أرضنا: «يارب طأطئ السموات وانزل، إلمس الجبال فتدخن، إرسل يدك من العلو إنقذني ونجنى» (144: 5-6).

ثم يذكر مزمور باكر استجابة الرب ونزوله إلى عالمنا: «ينزل مثل المطر على الجزة، ومثل قطرات تقطر على الأرض، يشرق فى أيامه العدل، وكثرة السلامة» (72: 6-7).

ويأتي مزمور القداس كنداء لنا نحن أن نهيئ أنفسنا لاستقبال عريس أنفسنا السماوي: «إسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي سمعك، وانسى شعبك وكل بيت أبيك، فإن الملك قد اشتهى حسنك، لأنه هو ربك» (45: 10-11).

ونأتي إلى مزامير الأحد الثالث، ونرى الفكرة تزداد وضوحاً، واستجابة السماء تزداد يقيناً:

من مزمور عشية، نتأكد من استجابة الرب ورضاه أن يسكن بيننا: «لأن الربَّ قد اختار صهيون اشتهاها مسكناً له. طعامها أبارك بركة مساكينها أشبع خبزاً» (132: 13-15).

ومن مزمور باكر نرى سرعة استجابة الرب لصراخنا: «أرنا يارب رحمتك وأعطنا خلاصك، سأسمع ما يتكلم به الرب فىّ، يتكلم بالسلام على شعبه، وعلى قديسيه» (85: 7-8).

ومن مزمور القداس، نرى وكأن التجسد قد تم، وأشرق الرب على أرضنا: «الرحمة والحق التقيا، والعدل والسلام تلاثما، الحق من الأرض أشرق، والعدل من السماء تطلع» (85: 10-11).

ونأتي لمزامير الأحد الأخير من شهر كيهك، ونجد أن فرحة العروس بالعريس قد قاربت على الكمال، لأن الرب أعلن رضاه بالتجسد على أرضنا، وسرَّ أن يأخذ جسدنا، ليصير واحداً منا:

ففي مزمور عشية تعلن الكنيسة أن الله العلي قد وُلد في أرضنا: «الأم صهيون تقول، إن إنساناً وإنساناً صار فيها، وهو العلى، الذي أسسها إلى الأبد» (87: 5).

وفي مزمور باكر تشارك الخليقة كلها الكنيسة في فرحها بتجسد الرب: «فلتفرح السموات ولتبتهج الأرض، وليتحرك البحر وكل ملئه، يبتهج كل شجر الغاب قدام وجه الرب لأنه يأتي، إنه يأتي ليدين المسكونة بالعدل والشعوب بحقه» (96: 11-13).

وفي مزمور القداس نعلن عن سبب تجسد الرب، أنه أتى لخلاصنا: «يا جالساً على الشاروبيم اظهر، قدام إفرايم وبنيامين ومنسى، لخلاصنا يا الله أرددنا، ولينر وجهك علينا فنخلص» (80: 1-3).

نعم، لقد انتظرت البشرية طويلاً، متطلعةً لمعونة السماء، ولكن: «لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ» (غل 4: 4-5). لقد نقلنا بتجسده من رتبة العبيد، إلى رتبة البنين، وأصبح لنا الحق أن ندعو الله أبانا: فَقَالَ (الرب يسوع) لَهُمْ: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (لو  11 :  2)، وهو أعظم امتياز نلناه بتجسد الرب أن نصبح أولاده، وتصبح لنا الدالة أن ندعوه أبانا.

 

اضغظ هنا للتحميل