عيد الميلاد المجيد 2018
والكلمة صار جسداً وحل فينا
إنجيل باكر قداس عيد الميلاد (يوحنا 1: 14-17):
«وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ فِيِنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً. يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى: هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي. وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا».
رتبت لنا الكنيسة المقدسة قراءات باكر قداس عيد الميلاد من إنجيل القديس يوحنا الأصحاح الأول. وتبدأ القراءة بالآية: «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ فِيِنَا» هكذا تأتي الترجمة «فينا» سواء عن الأصل اليوناني ἐσκήνωσεν ἐν ἡμῖν, أو عن الترجمة القبطية afswpi `nqryi nqyten وإن كان الفارق لغويًّا بين الكلمتين بيننا وفينا ليس كبيرًا، لكن الآباء رأوا في حلول الله فينا بالتجسد تعليمًا لاهوتيًّا بالغ الأهمية، لأنه يهم خلاصنا بالدرجة الأولى. ومن المعروف أن عبارة وحل فينا تعبِّر عن التراث الكنسي مدى الأجيال، وهذا نلاحظه في مرد الإنجيل العربي الذي نقوله في قداس عيد الميلاد، وهو في حقيقته يمثل مطلع ترنيمة كانت تقال في توزيع عيد الميلاد في منتصف القرن التاسع عشر: ربُّ المجد دُعي ولداً، كقول يوحنا في بشراه، الكلمة الأزلي صار جسدًا، وحل فينا ورأيناه.
يشرح القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه تجسد الكلمة أن حلول الكلمة في جسد خاص به، هو إقامة الملك في بيت واحد من المدينة، فتشمل الكرامة كل بيوت المدينة:
[وكما أنه لو دخل ملكٌ عظيمٌ مدينةً عظيمةً، واتخذ إقامته في أحد بيوتها، فإن هذه المدينة تتشح بالشرف الرفيع، ولا يعود عدوٌّ أو لصٌّ ينزل اليها لإخضاعها، بل على العكس، تعتبر مستحقةً لكلِّ عنايةٍ، لأن الملكَ اتخذ مقرَّه في بيتٍ من بيوتها، كذلك كانت الحال مع ملك الكل.
فإنه اذ أتى إلى عالمنا، واتخذ إقامته في جسدٍ واحدٍ مماثل لجسدنا، فقد بطلت كلُّ مؤامرة العدو ضد البشر منذ ذلك الحين، وزال عنهم فساد الموت الذي كان سائداً عليهم من قبل. لأن الجنس البشري كان سيهلك بالتمام لو لم يكن رب الكل ومخلّص الجميع ابن الله قد جاء ليضع حدًا للموت]([1]).
بمعنى أنه منذ أن تجسد الرب يسوع من العذراء مريم، في جسد شبيه بجسدنا، فَقَدَ إبليس سلطانه على هذا الجسد، أي على عموم الجنس البشري، وبطل فساد الموت منه. لذلك نجد صلوات الكنيسة تركز على معنى أننا كنا كلنا في المسيح منذ لحظة تجسده. ففي ثيئوتوكية يوم الخميس، وهي تدور في كلماتها حول تجسد الرب يسوع، يتكلم عن العذراء مريم بهذه العبارة:
[كل عجينة البشرية أعطتها بالكمال لله الخالق وكلمة الآب، هذا الذي تجسَّد منها بغير تغيير، ولدته كإنسان ودُعي اسمه عمانوئيل] (القطعة السادسة).
هنا تشرح ثيئوتوكية الخميس أن القديسة العذراء أعطت للابن كل عجينة البشرية بكمالها، حتى بسبب هذا الاتحاد تصل بركات التجسد لكل عموم الجنس البشري. لذلك فإن مرد كل قطع هذه الثيئوتوكية يؤكد على أن الابن في تجسده صار يُدعى ابن بشر بصورة مطلقة، كتعبير عن اتخاذه جسد البشرية:
[لم يزل إلهاً، أتى وصار ابن بشر، لكنه هو الإله الحقيقي، أتى وخلَّصنا].
ونفس المعنى نجده في القطعة الخامسة من ثيئوتوكية الأربعاء:
[السلام لمعمل الاتحاد غير المفترق الذي للطبائع التي أتت معًا إلى موضع واحد بغير اختلاط. السلام للخدر الْمُزيَّن بكل نوع الذي للختن الحقيقي الذي اتحد بالبشرية].
وهنا تشبه ثيئوتوكية الأربعاء البطن البتولي بالمعمل الذي اتحدت فيه الطبيعتان الإلهية والناسوتية في اتحاد بلا اختلاط، ثم يعطي السلام للخدر، أي محل العُرس، الْمُزَيَّن بكل الفضائل، الذي للعريس الحقيقي الرب يسوع الذي في تجسده اتحد بالبشرية. وأيضًا تستكمل الثيئوتوكية تلقيبها للابن المتجسد بتعبير أنه صار ابن بشر بصورة مطلقة:
[لأن غير المتجسِّد تجسَّد، والكلمة تجسَّمت، وغير المبتدئ ابتدأ، وغير الزمني صار زمنياً. غير الْمُدرَك لمسوه، وغير المرئي رأوه، ابن الله الحي صار ابن بشر بالحقيقة].
وهناك تعليق للقديس باسيليوس على عبارة: أنك تراب وإلى التراب تعود، في عظته على عيد الميلاد، يشرح فيه أن عيد ميلاد الرب يسوع هو عيد ميلاد البشرية، وأنه منذ ميلاد الرب يسوع بالجسد نُقض الحكم الواقع على آدم:
[لننشد مع الملائكة: ”قد وُلد لنا اليوم مخلِّص هو المسيح الرب“… فلنعيِّد، إذن، لخلاص العالم!… بل لنعيِّد لميلاد البشرية! فقد نُقض اليوم الحكم الواقع على آدم: «إنك تراب وإلى التراب تعود»، بل سوف يسمع فيما بعد: ”لأن السماوي اتحد بك، سوف تُرفع إلى السماء!“]…
نجد نفس المعنى في عظة القديس أنبا مقار الكبير عن عيد الميلاد، يقول فيها:
[اليوم ولد الرب الذي هو حياة وخلاص البشر،
اليوم تم الصلح بين الله والإنسان وبين البشرية واللاهوت،
اليوم ارتكضت الخليقة كلها: فالعلويون تقدموا نحو السفليون والسفليون نحو العلويين.
اليوم قد صارت نهايةٌ الظلمة وبدءُ حياة للإنسان،
اليوم انفتح الطريق للإنسان نحو الله وطريق الله انفتح نحو النفس البشرية…
اليوم سقط الحكم الذي رُفع على الإنسان، وتم ما قيل بالأنبياء، وانحل السبي، وانفك نفي الإنسان، واقترب ملكوت السموات (مت3: 2).
لقد تكسرت قيود الإنسان، وانفتح الحبس، وسقط الحكم، وانقشعت الظلمة.
اليوم صار الفداء، وتمت حرية الإنسان بالمصالحة، وكملت شركة الروح بالإتحاد مع الله. اليوم رُفع وجه الإنسان وعُتق من المذلة، وأُعطيت له الجراءة لينظر الله بوجه مكشوف (2كو3: 18) ويمتزج الروح بالروح].
فالقديس مقاريوس الكبير يعيِّد هنا يوم عيد الميلاد بالصُلح الذي تم بين الله والإنسان وبين اللاهوت والبشرية، ويقرر أنه اليوم قد صار نهاية الظلمة، وبالتجسد والميلاد انتفح طريق الإنسان نحو الله.
ويعلق القديس كيرلس الكبير في تفسيره لإنجيل القديس يوحنا على الآية «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ فِيِنَا» قائلاً:
[ إن تأكيده بأن: «الكلمة حلَّ فينا» ذو منفعة عظمى، لأنه بذلك يكشف لنا سراً من أعمق ما يمكن.
فإننا جميعًا كنا في المسيح، والشخصية البشرية العامة تستعيد فيه الحياة.
ولذلك فإنه يُدعى آدم الأخير، لأنه يُغني طبيعتنا المشتركة بكل ما يؤول إلى السعادة والمجد، كما أمدَّها آدم الأول بما يؤول إلى الفساد والعار.
لقد حلَّ الكلمة في الجميع بواسطة الواحد، حتى إذا ما تعيَّن هذا الواحد ابناً لله بقوة من جهة روح القداسة (رو1: 4)، تمتد هذه الكرامة إلى البشرية كلها، وبسبب الواحد منَّا يُدركنا القول: «أنا قلتُ: إنكم آلهة وبنو العليّ كلكم» (مز81: 6 في السبعينية)…
أَفلاَ يظهر بجلاء للجميع أنه نزل إلى مستوى العبد، ليس لكي يربح من ذلك شيئاً لنفسه، بل لكي يُنعم علينا بشخصه فنغتني بافتقاره (2كو8: 9)، ونرتقي بمشابهتنا له إلى صلاحه الخاص الفائق، ونكون آلهةً وأبناءً لله بالإيمان؟
لقد حلَّ الكلمة في الجميع بحلوله في هيكل جسده الواحد المأخوذ منا ولأجلنا، حتى يقتني الجميع في نفسه، فيُصالح الكل في جسد واحد مع الآب، كما قال بولس (أف2: 16)].
أما القديس غريغوريوس النيسي في عظته عن البتولية (2: 2) فيرى أن ما تم في العذراء مريم، ممكن أن يتم في كل إنسان يحفظ بتوليته مثل العذراء، فيتجسد فيه الرب يسوع، ليس بصورة جسدية، بل بصورة روحية:
[ إن ما تمَّ جسدياً في مريم الطاهرة، حتى تجلَّى كل ملء اللاهوت جسدياً في المسيح بواسطة بتوليتها، هذا أيضاً يتم في كل نفس تحفظ البتولية الروحية بحسب اللوغوس. غير أن الرب لا يجعل حضوره بعد جسدياً، لأننا، كما يقول بولس: «لا نعرف المسيح بعد حسب الجسد» (2كو5: 16)، ولكنه يسكن فينا روحياً، بل ويُحضر أباه أيضاً معه كما يقول الإنجيل (يو14: 23)].
يؤكد الأنبا بولس البوشي، وهو من آباء القرن الثالث عشر، في ميمر عيد الميلاد، على نفس معنى حلول الكلمة فينا، وأنه بسبب اتحادنا به، ينبغي علينا أن نحفظ أجسادنا نقية، لأننا صرنا جسده، من لحمه ومن عظامه (أف 5: 30):
[إن تجسده ومولده لم يكن من أجله، بل من أجلنا نحن ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء وتجسد من مريم العذراء ووُلد جسدانياً، لكي يولدنا نحن روحانيين. تواضع لكي يرفعنا. اتحد بطبيعتنا الحقيرة لكي يعطينا نحن موهبة الروح القدس. سمَّى ذاته ابن البشر، لكي يسمينا نحن بنين لله الآب… إذاً فلنحفظ حواسنا سالمةً من المعايب، التي هي النظر والسمع والنطق والشم واللمس، لأجل كرامة الذي طهَّر البشرية جسداً ونفساً وعقلاً، باتحاده بها، ولأجل كثرة تواضعه الذي لا يُحد. لم يأنف أن يسمينا إخوته كما هو مكتوب: «إني أبشِّر باسمك إخوتي» (مز 22: 22؛ عب 2: 12)].
لقد وُلد الإنسان جديدًا يوم ميلاد المسيح، حسب تعبير الأب متى المسكين، لميراث أبوي محفوظ له في السموات، لفرحٍ لن يُنزع منه، ومجدٍ لا يُنطق به.
[1] تجسد الكلمة، الفصل التاسع (3-4).