أسس الرهبنة

 

أسس الرهبنة – قراءة جزء من بستان الرهبان

إن سير وأقوال آباء البرية تنقل لنا صورةً حقيقيةً لحياة معاشة يتخللها الكثير من الانتصارات، ولكنها لا تخلو أيضاً من بعض الإخفاقات. فإن تقابلنا مع مستويات عالية من الروحانية وإماتة الذات، فهذا نتيجة لخضوع الراهب لعمل النعمة في القلب، مع اليقظة والسهر والجهاد لسنوات طوال. أما إن تقابلنا مع روايات بها سقطات وخطايا، فالراهب إنسانٌ في ميدان الجهاد، قد يُجرح أو حتى يُقتل، لكنه سوف يُكلَّل في النهاية إن لم يلقِ عنه سلاحه، وإن لم يتخلَ عن رجائه في الرب يسوع [«نعم يا راهب، حربٌ هي، إن شئتَ فحارب، وإلا سلِّم لأعدائك» (قول 701)].

تقوم الرهبنة على ثلاثة أعمدة: الطاعة، والبتولية، والفقر الاختياري

أولاً الطاعة:

الطاعة ليست عبودية، فلم يكن الابن عبداً للآب عندما أطاعه حتى الموت موت الصليب: 5- فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً: 6- الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ 7- لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ 8- وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ 9- لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ 10- لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، 11- وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ.

666 – [أخبر أبٌ أنه أبصرَ أربع مراتب مرتفعةً في السماءِ، الأولى: مريضٌ شاكرٌ لله. والثانية: صحيحٌ يضيفُ الغرباء وينيح الضعفاء. والثالثة: منفردٌ في البريةِ مجتهدٌ. والرابعة: تلميذٌ ملازمٌ لطاعةِ أبيه من أجلِ الله. ووجد أن مرتبةَ التلميذ أسمى من المراتب الثلاث الأخرى، وزعم أنه سأل الذي أراه ذلك قائلاً: «كيف صار هذا هكذا وهو أصغرهم، فأصبح أكبرهم مرتبةً»؟ فقال: «إن كلَّ واحدٍ منهم يعمل الخيرَ بهواه، وأما هذا فقد قطع هواه لله، وأطاع معلمه، والطاعة لأجلِ اللهِ أفضل الفضائل»] (س5: 139ظ).

570 – [وقال راهبٌ: «إن الذي يجلس في طاعةِ أبٍ روحاني لهو أكثرُ أجراً وأقلُّ خطراً من ذاك الذي يجلس منفرداً في الوحدةِ والسكوت (Abc. Rufus 2a).

قصة القديس يوحنا القصير: تخلص تخلص. وقصة شجرة الطاعة.

ثانياً الفقر الاختياري:

844 – [وسُئلت هذه المغبوطة مرةً إن كان عدم القنية صلاحاً كاملاً، فأجابت بأن ذلك هو حدُّ الصلاحِ لمن أمكنهم ذلك، لأن الذين يصبرون على عدم القنية يكون لهم حزنٌ بالجسمِ، ونياحٌ بالروحِ، وهدوءٌ في أنفسِهم، كمثلِ الثيابِ الجلدِ التي تُداس بشدةٍ وتُقلَّب وتُغسل فتنظَّف، هكذا أيضاً النفسُ الشديدةُ بالفقر، فإنها تتشدد وتنظف] (س5: 175ظ) (Abc. Syncletique 5).

1140 – [قال شيخٌ: «لا تطلب حوائجَ كثيرةً، لأنك عاهدت المسيحَ أن تعيشَ معه بالفقرِ، لأن المسيحَ هو حياةُ النفسِ، وكلُّ من اقتناه في قلبهِ وفي فكرِه وكلِّ تصرفاته بامتدادِ عقله إليه، ينجحُ في سيرةِ هذا العمرِ، وينال الحياةَ التي لا تزول»] (س5: 224ج).

809 – [رجلٌ موسرٌ، تصدَّق بمالٍ، وأمسك بعضَه لقلةِ إيمانِه، وأتى إلى الأب أنطونيوس وسجد له قائلاً: «علِّمني كيف أخلص». قال له الشيخُ: «إن أردتَ أن تخلصَ فاصنع ما أقوله لك أولاً. امضِ إلى القريةِ واشترِ لحماً وانزع ثيابَك وعلقه في رقبتِك وتعالَ». فأطاع الشيخُ، واشترى اللحمَ، وخلع ثيابَه، وحمله على رقبتهِ، فلم يبقَ طيرٌ ولا كلبٌ في تلك القريةِ إلا واجتمعوا عليه، فنهشه الطيرُ وجرح جسمَه. فلما بلغ القديسَ على هذه الحال، قال له: «مرحباً يا ابن الطاعةِ، اعلم يا ابني إني قلتُ لك أن تصنعَ هذا، كي أعطيك مثالاً، فإن كثيرين من الناسِ، إذا سمعوا الوصايا لا يحفظونها، وآخرون ينسونها لقلة الحسِّ، ولذلك أمرتُك بهذا ليكون كلامي فيك ذا أثرٍ، لأجل ألم الوجع، فإن أصحابَ قلةِ الحسِّ لا تنفع فيهم الموهبة شيئاً، فلهذا المعنى يا ابني أسَّستُ فيكَ آثاراً لوصيتي. فإذ قد تنقَّى حقلُك من شوكِ الغفلةِ، فلنبذر فيك الزرعَ المقدس، أرأيتَ يا ابني كيف نهشت الطيورُ والكلابُ جسمَكَ وجرحته، كذلك تنهش الشياطيُن أصحابَ القنيَةِ، فافهم الآن هذا الكلام في عقلِك وتفكَّر به كلَّ أيامِ حياتِك، وإياك يا ابني أن تجعلَ لك اتكالاً على المالِ، بل اتكل على المسيح. فاذهب الآن وفرِّق جميعَ ما أبقيتَ لك من المالِ، حتى تكون، يا حبيبي، رهبانيتُك صافيةً من الغشِّ، لأنه ضارٌّ بالراهبِ أن يُبقي في قلايته ديناراً وشيطاناً»، وبعد أن دعَّمه بالكلامِ أخذ قليلاً من الزيتِ وصلى عليه ودهنه، وللوقت شُفيَ كأنه لم تُصبْه جراحٌ ولا ألمٌ قط، وذهب وهو مسرورٌ يسبح اللهَ»] (س5: 167ظ) (Abc. Anthony 20).

ثالثاً: العفة أو البتولية:

بالنسبة للبتولية أو العفة: ربما تقابلنا قصصٌ أو أقوالٌ قد تبدو غريبةً على مسامعنا للوهلة الأولى، ولذا ينبغي قراءتها في سياقها التاريخي والرهباني. فمثلاً عندما تطلب إحدى الزائرات من أنبا أرسانيوس أن يصلي من أجلها، فيرد عليها قائلاً: [«لا. بل إني أصلِّي إلى اللهِ أن يمحوَ خيالَكِ واسمَكِ وذِكرَكِ وفكرَكِ من قلبي» (قول 94)]، أو عندما يقول الراهب لابنه عن المرأة أنها الشيطان (قول 1038)، فهذه ليست نظرة دونية للمرأة. فقد أثيرت نفس هذه القضية في العصور الرهبانية الأولى، وكان ردُّ البابا ثاوفيلس عليها هكذا: [«ألا تعلمينَ أنكِ امرأةٌ، وأن العدوَّ يُقاتلُ الرهبانَ بالنساءِ. فإلى ذلك أشار الشيخُ. وأما عن نفسِك فهو يصلِّي دائماً وغيرُ ناسٍ تعبَك وسفرَك» (قول 94)].

 

اضغظ هنا للتحميل