الإفخارستيا والبابا كيرلس

 

كانت ليلة آلام الرب يسوع على الصليب هي آخر ليلة يقضيها مع تلاميذه وهو في الجسد على الأرض، فأراد أن يسلِّمهم سرَّ حياتهم، وسرَّ ثباتهم ووحدتهم به وببعضهم البعض، فلم يجد أعظم من تسليم جسده ودمه الأقدسين، ليكونا لهم سرَّ بقائهم ونموهم.

وقد أوصاهم، بل وأمرهم أن يقيموا هذه الإفخارستيا لأنها تمثل أسهل طريق لعمل الكرازة والبشارة باسمه: لأنكم كلما أكلتم من هذا الخبز، وشربتم من هذه الكأس، تبشِّرون بموتي، وتعترفون بقيامتي، وتذكرونني إلى أن أجيء (القداس الإلهي).

وبالرغم من أن القديس بولس لم يكن حاضراً هذه اللحظة الفريدة من تاريخ البشرية، فقد تنازل الرب وسلَّمه ما سبق وأعطاه للتلاميذ: «لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضاً: إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا أَخَذَ خُبْزاً» (1كو 11: 23)، حتى يكون القديس بولس شاهداً لعظمة هذا السر وموصلاً جيداً للأجيال التالية.

وهكذا سلَّم الرسل هذا السرَّ للكنيسة من بعدهم، فيكتب القديس إغناطيوس الذي كان معاصراً للرسل في رسالته لأهل أفسس واصفاً سر الإفخارستيا أنه: [ترياق الخلود، ودواء عدم الموت، لكي نحيا في يسوع المسيح على الدوام].

لذلك يتمنى قبل استشهاده أن يعفوه من أي غذاء أرضي: [لم يعد يروقني غذاء الفساد، ولا تغريني ملذات هذا العالم، أني أشتهي خبز الله، الذي هو جسد يسوع المسيح، الذي صار  من نسل داود، والشراب الذي أشتهيه هو دمه الذي هو الحب الذي لا يزول] (رسالة رومية 7).

وهكذا عاشت الكنيسة طوال عصورها من جيل إلى جيل تستلم من الآباء وتسلِّم بكل أمانة للأجيال التالية ما استلمته من الرب يسوع شخصياً، ولم تفرط الكنيسة في أية كلمة أو ممارسة مما استلمته من الرب.

وعاش البابا كيرلس السادس ومارس بكل أمانة ما تعلمه من قديسي الكنيسة، واقتنع أن سرَّ قوة حياته يكمن في اقترابه من المذبح، وفي الاتحاد بالرب يسوع كل يوم في سر الإفخارستيا.

لم يدرس البابا كيرلس السادس دراسة أكاديمية في المعاهد اللاهوتية المتخصصة، مثله مثل الكثير من أبناء جيله، لكنه تعلم كل المفاهيم اللاهوتية من الصلوات الليتورجية التي كان يمارسها كل يوم أمام المذبح، خاصة صلوات القداس الإلهي والتسبحة اليومية التي كان يعشق تلاوتها كل يوم.

ولم تكن معرفته اللاهوتية معرفةً نظرية عقليةً، بل كانت خبرة حياة عاشها وسلَّمها لتلاميذه ومحبيه، فكل من تلامس معه عشق الكنسية، وأحب صلواتها، وحفظ نصوص تسابيحها، فحفظته وكانت له حصناً أمام تجارب العالم ومحارباته وشكوكه.

 

 

اضغظ هنا للتحميل