عيد الفصح
عندما بدأ عيد الفصح عند اليهود، ثار سؤال: ما معنى الفصح، لأن كلمة الفصح تعني عبور، فما معنى ذبيحة عبور. أو كما يقول سفر الخروج: مَا هَذِهِ الْخِدْمَةُ لَكُمْ؟ (خر 12: 26). وصار هذا تقليداً في كل وليمة فصح أن يُسأل هذا السؤال: ما هذه الخدمة لكم؟. نفس هذا السؤال موجود اليوم في الكنيسة: اصنعوا هذا لذكري، ما هي هذه الذكرى؟
وجهان للفصح:
ماذا يعني طقس الفصح؟ يعطي العهد القديم إجابتين، وإن كانتا مكملتين بعضهما لبعض.
- المعنى الأقدم يشير إلى عبور الرب: «وَيَكُونُ حِينَ يَسْأَلُكُمْ أَوْلاَدُكُمْ: مَا هَذِهِ الْخِدْمَةُ لَكُمْ؟ تَقُولُونَ: هِيَ ذَبِيحَةُ فِصْحٍ pesach xs;P,’ لِلرَّبِّ الَّذِي عَبَرَ ‘pasach xs;P عَنْ بُيُوتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ لَمَّا ضَرَبَ الْمِصْرِيِّينَ وَخَلَّصَ بُيُوتَنَا» (خر 12: 26-27).
فالفصح هو تذكار لعبور الرب، فالذي عبر هو الرب.
- الإجابة الثانية تظهر أيضاً في سفر الخروج وفي سفر التثنية، وهي العبور أو الخروج من أرض مصر، أي من العبودية إلى الحرية: «وَقَالَ مُوسَى لِلشَّعْبِ: اذْكُرُوا هَذَا الْيَوْمَ الَّذِي فِيهِ خَرَجْتُمْ مِنْ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ فَإِنَّهُ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ أَخْرَجَكُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَا… وَتُخْبِرُ ابْنَكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَائِلاً: مِنْ أَجْلِ مَا صَنَعَ إِلَيَّ الرَّبُّ حِينَ أَخْرَجَنِي مِنْ مِصْرَ. وَيَكُونُ لَكَ عَلاَمَةً عَلَى يَدِكَ وَتَذْكَاراً بَيْنَ عَيْنَيْكَ لِتَكُونَ شَرِيعَةُ الرَّبِّ فِي فَمِكَ. لأَنَّهُ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ أَخْرَجَكَ الرَّبُّ مِنْ مِصْرَ… وَيَكُونُ مَتَى سَأَلَكَ ابْنُكَ غَداً: مَا هَذَا؟ تَقُولُ لَهُ: بِيَدٍ قَوِيَّةٍ أَخْرَجَنَا الرَّبُّ مِنْ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ» (خر 13: 3-14).
«اِحْفَظْ شَهْرَ أَبِيبَ وَاعْمَل فِصْحاً لِلرَّبِّ إِلهِكَ لأَنَّهُ فِي شَهْرِ أَبِيبَ أَخْرَجَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ مِصْرَ ليْلاً» (تث 16: 1)؛
الفصح هنا تذكار لعبور بني إسرائيل من أرض العبودية، فالذي عبر هو الشعب بواسطة الرب.
فبعد أن كان المفهوم الأصلي يركز حول الرب الذي عبر عن بيوت العبرانيين، أصبح المفهوم يركز حول الخلاص الذي تم لبني إسرائيل. واضح أن المفهومين ليسا متعارضين. كما أن المفهوم الثاني هو مفهوم ديني وليس سياسياً: «فَتَقُولُ لِفِرْعَوْنَ: هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: إِسْرَائِيلُ ابْنِي الْبِكْرُ. فَقُلْتُ لَكَ: أَطْلِقِ ابْنِي لِيَعْبُدَنِي فَأَبَيْتَ أَنْ تُطْلِقَهُ. هَا أَنَا أَقْتُلُ ابْنَكَ الْبِكْرَ» (خر 4: 22-23).
هذان المفهومان، اللاهوتي والخلاصي، يستمران جنباً إلى جنب طوال العهد القديم، وحتى زمن الرب يسوع. المعنى الأول كان منتشراً في الأوساط الدينية وفي الهيكل في أورشليم، أي معنى عبور الرب. ففي سفر إشعياء (أصحاح 31) بعد أن يتكلم الرب عن مصر: وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَنْزِلُونَ إِلَى مِصْرَ لِلْمَعُونَةِ (عدد 1) يقول (في عدد 5): هَكَذَا يُحَامِي رَبُّ الْجُنُودِ عَنْ أُورُشَلِيمَ. يُحَامِي فَيُنْقِذُ. يَعْفُو (يعبر xs;P’ )فَيُنَجِّي.
وهناك نص أساسي في ترجوم سفر الخروج يشرح كل قصة الخلاص في أربعة أحداث: يوم الخليقة، يوم ذبيحة إسحق، يوم الفصح، ويوم نهاية العالم. وفي هذا النص يمثل الفصح اليوم الذي أظهر فيه الله قوته ضد المصريين وأنقذ أبكار بني إسرائيل. هذا المعنى كان أيام الرب يسوع، وكان الفصح يتم يوم 14 نيسان كوليمة تشترك فيها كل العائلة اليهودية.
أما عند يهود الشتات، خاصة في الإسكندرية، فقد انتشر المفهوم الخلاصي، أي عبور بني إسرائيل البحر الأحمر، كرمز لعبور الإنسان من العبودية إلى الحرية، ومن حياة الشر إلى حياة الفضيلة. أو كما يقول فيلو اليهودي: يوم الفصح هو يوم تذكار وشكر للرب الذي عبر بنا من مصر، بمعنى أن يوم الفصح هو يوم تطهير النفس.
ونلاحظ هنا أن ثاني سفر في العهد القديم كان اسمه: وهذه أسماء، أي أول كلمة في السفر، أما في الترجمة السبعينية فصار اسمه: سفر الخروج، كذكرى لخروج بني إسرائيل.
كما نلاحظ أن مفهوم الخروج أو الهجرة تغلغل في وجدان الشعب اليهودي، حتى أنهم استعادوا خروج وهجرة إبراهيم داخل الطقس اليهودي نفسه: «ثُمَّ تَقُولُ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكَ: أَرَامِيّاً تَائِهاً كَانَ أَبِي فَانْحَدَرَ إِلى مِصْرَ وَتَغَرَّبَ هُنَاكَ فِي نَفَرٍ قَلِيلٍ فَصَارَ هُنَاكَ أُمَّةً كَبِيرَةً وَعَظِيمَةً وَكَثِيرَةً» (تث 26: 5). ونفس هذا الصدى نجده في العهد الجديد: «فِي الإِيمَانِ مَاتَ هَؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ» (عب 11: 13).
ونتيجة لانتشار المفهوم الأول في أورشليم، أي أنَّ عبور الرب هو محور العيد، حافظ على الاحتفال به ليتورجياً بواسطة وليمة الفصح، وتكون الأسرة جميعها مجتمعة حول الوليمة. أما المفهوم الثاني، وهو المعنى الخلاصي فلا يحتاج لممارسة ليتورجية.
أما بعد خراب هيكل أورشليم، فقد اختفى تقريباً المعنى الأول، وأصبح مفهوم الفصح الآن في الأوساط اليهودية رمزاً لحرية الإنسان وعبوره من العبودية إلى الحرية أو من الموت إلى الحياة.
من الفصح اليهودي للفصح المسيحي:
من الواضح أن الرسل في بداية المسيحية لم يتخلوا عن الهيكل اليهودي، وبالتالي كانوا يعيدون للفصح اليهودي في الهيكل، ولكن ليس انتظاراً لمجيئ المسيا، بل انتظاراً للمجيء الثاني للرب يسوع. فبأي مفهوم دخل الفصح اليهودي للمسيحية؟
دخل المفهومان معاً للمسيحية الأولى:
المفهوم الأول، وهو أن الفصح بكل الأحداث المصاحبة له، كانت رمزاً لموت الرب يسوع: يقول معملنا بولس الرسول: «إِذاً نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ لِكَيْ تَكُونُوا عَجِيناً جَدِيداً كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا» (1كو 5: 7). لذلك أصبح الفصح تذكاراً لموت الرب الخلاصي. بمعنى عبور الرب بالآلام والموت إلى القيامة. وما دام الفصح بكل أحداثه يتحقق في موت الرب وقيامته، أصبح الحاجة لليتورجية تشرح هذا الحدث.
نرى ذلك واضحاً في تسليم الرب لسر الإفخارستيا للتلاميذ، حسب ما ورد على لسان بولس الرسول: «لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضاً: إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا أَخَذَ خُبْزاً. وَشَكَرَ فَكَسَّرَ وَقَالَ: خُذُوا كُلُوا هَذَا هُوَ جَسَدِي الْمَكْسُورُ لأَجْلِكُمُ. اصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي. كَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَمَا تَعَشَّوْا قَائِلاً: هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي. اصْنَعُوا هَذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي. فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هَذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هَذِهِ الْكَأْسَ تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ» (1كو 11: 23-26).
نلاحظ هنا التركيز على موت الرب، وهذا التركيز على موت الرب هو الذي دفع كنيسة أسيا الصغرى أن تحتفل بالفصح يوم 14 نيسان، يوم ذبح خروف الفصح، كيوم ثابت في الشهر العبري. في حين رأت باقي الكنائس وخاصة كنيسة روما أن مفهوم الفصح هو عبور الرب بواسطة الآلام إلى القيامة، لذلك أكدت على الاحتفال بقيامة الرب يوم الأحد، كيوم ثابت في الأسبوع.
وسواء مفهوم كنيسة روما أو كنيسة آسيا الصغرى، فلم يكن مفهوم الموت بالجسد هو الذي يشغل ذهن المسيحيين الأوائل، بل كان موت الموت: «ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ» (1كو 15: 54). المسيح قام من بين الأموات، بالموت داس الموت.
المفهوم الثاني للفصح نشأ في مدينة الإسكندرية، على يد كلمندس وأوريجانوس، فقد رأيا أن حياة الكنيسة كلها، وحياة كل المؤمنين فيها، عبارة عن رحلة خروج، تبدأ من لحظة قبول الإيمان والمعمودية، وتنتهي بالخروج من هذا العالم. على أساس أن الفصح اليهودي كان رمزاً، وقد تم تحقيق هذا الرمز في عبورنا من عبودية الخطيئة إلى حرية أبناء الله، وعبورنا من الموت إلى الحياة. ونظرة هؤلاء الآباء أن الفصح ليس حدثاً تم في الماضي، بل حقيقة نعيشها كل يوم.
انتشر هذا المفهوم في الكنيسة الأولى، وكان من أثر هذا المفهوم ارتباط عيد الفصح (عيد القيامة في الكنيسة الأولى) بالمعمدين الجدد، فكانت المعمودية تتم ليلة عيد الفصح.
هذان المفهومان للفصح نجدهما في كتابات القديس يوحنا الإنجيلي، ولكن بطريقة سرية روحية. والمفهومان يكمل كل منهما الآخر.
المفهوم الأول، وهو مفهوم عبور الرب، يقابلنا في إنجيل يوحنا أصحاح 13: «أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ Pa,sca وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى».
هنا معلمنا يوحنا يرى أن الفصح هو عبور الرب يسوع من هذا العالم إلى الآب. هذا العبور يحمل في طياته معنى الآلام والقيامة، فلا توجد قيامة دون المرور أو العبور أولاً بالآلام، نرى ذلك واضحاً في تعليم الرب يسوع لتلميذي عمواس: «أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟» (لو 24: 26). كما يرى معلمنا يوحنا الإنجيلي أن الدافع وراء هذا العبور هو أنه أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى.
والمفهوم الثاني نجده أيضاً عند القديس يوحنا في رسالته الأولى، وهو مفهوم عبور المؤمنين من الموت إلى الحياة أو من العبودية إلى الحرية: «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ انْتَقَلْنَا مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ لأَنَّنَا نُحِبُّ الإِخْوَةَ. مَنْ لاَ يُحِبَّ أَخَاهُ يَبْقَ فِي الْمَوْتِ، (ثم يربطها بذبيحة الفصح) … بِهَذَا قَدْ عَرَفْنَا الْمَحَبَّةَ: أَنَّ ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، فَنَحْنُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَضَعَ نُفُوسَنَا لأَجْلِ الإِخْوَةِ» (1يو 3 : 14، 16). نلاحظ هنا التركيز على مفهوم المحبة، ونحن نعلم الأمر الذي أعطاه الرب يسوع أن لا يقدم أحد قربانه إن كان متخاصماً مع أخيه.
كما نجد التركيز على المفهوم الثاني عند آباء كنيسة الإسكندرية، الذين كانوا يعلِّمون دائماً أن عبور الرب، كان بمثابة عبور الرأس الذي يتبعها بالضرورة عبور الجسد كله، وهذا ما كان الرب نفسه قد ألمح إليه: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يو 12 : 24)؛ وأيضاً: «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ» (يو 12 : 32).
لقد كان عبور الرب يسوع من العالم إلى الآب، من خلال الآلام والقيامة، هو عبور لنا نحن المؤمنين باسمه، كما يقول بولس الرسول: «لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ» (كو 3: 3). إن عبورنا مع الرب يسوع إلى الآب حقيقة حتمية يجب أن نتممها، فقد أخذنا عربونها في المعمودية، ونكملها الآن بمحبتنا للإخوة. لذلك يجب أن نعبر من هذا العالم، بدلاً من أن نعبر مع هذا العالم، لأن العالم يمضي وشهوته، كما قال الرسول يوحنا (1يو3: 17).