قراءة في ميمر على القيامة المقدسة
لأنبا بولس البوشي
قراءة في ميمر على القيامة المقدسة
تقليد كنيستنا القبطية في عقيدة القيامة وأسبابها ومفاعيلها لم تتغير طوال الألفي عام، وبالرغم من تعرض كنيستنا القبطية لاضطهادات مريرة طوال عصورها، كما عانت أيضًا بسبب انقسام الكنيسة في القرن الخامس، إلا أن تعليمها لم يتغير عما تسلمناه من الرسل ومن آباء الكنيسة. وخير شاهد على استمرارية تعليم الكنيسة في نقائه، كتابات آباء الكنيسة في القرن الثالث عشر، خاصة عند القديس بولس البوشي أسقف مصر في القرن الثالث عشر، التي تعد استمرارية لكتابات آباء القرون الأولى. ففي افتتاحية ميمره على عيد القيامة، يذكر القديس بولس البوشي أولاً مفاعيل القيامة كما وردت في كتابات آباء الكنيسة الأولى، مُعطيًا نموذج لحن القيامة ليشرح به أنه عندما مات المسيح، فقد داس الموتَ، الموتَ الذي دخل إلى العالم نتيجة لسقوط الإنسان الأول. ثم بقيامة المسيح من بين الأموات نال الإنسانُ الحياة الأبدية. وقد بثَّ الربُّ يسوع القائم من بين الأموات قوة هذه الحياة أولاً في جسده الخاص، ومنه انتقلت قوة القيامة والحياة الأبدية لنا نتيجة انتسابنا نحن لجسده هذا المأخوذ منَّا.
يبدأ بهذه الافتتاحية رابطًا بين قيامة المسيح وبين حياتنا اليومية:
- يا من قام من بين الأموات، وداس الموت، وأنعم علينا بحياة جديدة لا تبلى، أيها المسيح إلهنا، أقم عقلنا الميت لكي ما يشاهد مجد لاهوتك غير المدرك.
أيها الرب القدوس، الذي أبطل مخاض الموت بقيامته المقدسة، أبطل عنا قوات العدو المميتة للنفس، لكي ما نسلك معك في حياة لا تفنى.
- أيها السيد الأزلي، ثبِّت فينا رجاء الحياة المستأنفة (الآتية)، التي ليس لها انقضاء، واغرز في قلوبنا رجاء خيرات ملكوتك الأبدية.
أيها الرحوم المتحنن، الذي بقيامته المقدسة أعطى جنسنا السلطان أن يكون لنا معه حظ في القيامة الجامعة للكل، اجعل لنا نحن أيضاً نصيباً في ذلك الإرث مع كافة قديسيك.
(3) أيها الصالح مدبر كل البرايا، الذي يغير جسد ضعفنا فيصيره شبيهاً بجسد مجده، في نعيم لا يبلى وحياة لا ينالها موت ولا وصب (تعب)، أعطنا قوة ها هنا، لتغير منا العادات الرديئة، بأعمال جيدة فاضلة، لكي نستحق انتقالاً فاضلاً مع كافة قديسيك الذين أرضوك منذ الأبد.
(5) الآن أبدأ وأقول: المسيح قام من بين الأموات، الذي مات داس الموت، والذين هم في القبور أنعم عليهم بحياة أبدية. الذي تألم قهر الآلام (نلاحظ أن الألم قبل الصليب كان عقابًا: «بالوجع تلدين أولادًا، بعرق جبينك تأكل خبزك» (تك 3)، ثم صار الألم شركة في آلام المسيح: «إن كنا نتألم معه لكي نتمجد معه» رو 8: 17). الذي مات أبطل شوكة الموت. الذي مضى بقوة لاهوته إلى الجحيم سبى الجحيم وخلص النفوس التي كانت ترجوه. فتح باب الفردوس وأدخل آدم وذريته. الذي أقام الساقطين وأضاء علينا برجاء الحياة ولكافة الأجناس الذين لم يكن لهم رجاء. هيئ لنا طريقاً للملكوت، أصلح لنا سبيلاً يؤول إلى الحياة الجديدة، افتح أمامنا باباً يفضي إلى المنازل الدهرية.
ثم يبدأ في شرح كيف دخلت الحياة الأبدية إلى حياتنا ونحن ما زلنا على الأرض:
(6) كيف يستطيع الأموات المولودون من الأرض (أن ينالوا) الحياة المؤبدة في جوهرهم، لو لم يتحد بهم رئيس الحياة ورب القوات ووهب لهم الحياة التي تليق به؟ (انتقال الحياة الأبدية لنا منذ الآن، وليست مجرد حياة، فجميع الكائنات الحية تتمتع بالحياة، ولكنها الحياة التي نلناها فيه هي حياة تليق به هو، أي حياة من حياة الله، باتحاد رئيس الحياة بنا).
(7) كيف يقدر المشجوبون (أي الواقعين تحت الخطية) على التبرر لو لم يخالط بشرهم (أي جسدهم) إله المجد البار وحده، ويوصل إليهم المجد الملائم له؟ (نلاحظ هنا أن المجد الذي انتقل إلينا أيضاً هو مجد يليق بالمسيح القائم من بين الأموات: «وأعطيتهم المجد الذي أعطيتني» (يو 17: 22). أما الآية التي وردت في سفر إشعياء: «ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات» (إش 42: 8)، فهو هنا يتكلم عن الآلهة الوثنية، أي أن الله لا يعطي مجده للآلهة الأخرى التي كانت تعبدها الأمم المجاورة للشعب الإسرائيلي).
(10) وكما أن الموت الذي صار إلينا من أبينا آدم الأول لم يكن غريباً منا، بل صار إلينا بالنسبة (أي بانتساب) البشرية إليه («لأنه كما في آدم يموت الجميع» 1كو 15: 22)، وكذلك الحياة التي صارت إلينا بالمسيح لم تكن غريبة منا، بل صارت إلينا بالنسبة للجسد المأخوذ منا تفضلاً منه علينا. فكان الموت بالعدل، وصارت الحياة بالتفضل والإنعام. (نلاحظ أن كلمة عدل وبر وصدق وحق في اليونانية كلمة واحدة δικαιοσύνη كذلك كلمة عادل وبار وصديق δίκαιον لذلك نراه يتكلم عن عدله ليس بالمفهوم القضائي على الإطلاق. ويمكننا مقارنة آيتين لنعرف كيف تطابق كلمة عدل وبر في لغة الإنجيل: «أَمَّا نَحْنُ (اللص اليمين) فَبِعَدْلٍ δικαίως لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا» (لو 23: 41)، قارن هنا كلمة عدل مع كلمة بر في هذه الآية: «اُصْحُوا لِلْبِرِّ δικαίως وَلاَ تُخْطِئُوا» (1كو 15: 34).
(11) لحقٍّ (حقاً) لقد افتخرنا بالرب كما هو مكتوب، وارتفع قرننا بالإله مخلصنا، وفرحنا بخلاصه. وكما أن الله خلق البرية منذ البدء تفضلاً منه عليها، لا حاجة به إليها، كذلك كان من واجب عدله أن يتعاهد بريته، لا حاجة له إلى ذلك، بل تفضلاً منه ورحمة، فخلقها أولاً بحياة زمنية، وتعاهدها ثانية وجددها بحياة أبدية. أولاً صنعها لعالم الفناء ودار الأتعاب والأوصاب، وثانياً أقامها لعالم البقاء ودار النياح والنعيم والأفراح.
(12) ولما خلق أبانا آدم وجعله في فردوس النعيم، أمره قائلاً: «من كل الأشجار كُلْ، ما خلا من هذه الشجرة الواحدة لا تأكل، فإنك في اليوم الذي تأكل منها موتاً تموت». فأكل آدم ولم يمت ذلك اليوم، بل بعد تسع مائة وثلاثين سنة. وكلام الله لا يكون باطلاً، بل كما أن الموت المحسوس (هو) افتراق النفس من الجسم، كذلك الموت المعقول (هو) افتراق روح الله من الإنسان. لأن بافتراق الأفضل من الأدنى يكون موت الأدنى بلا شك، لأنه سبب حياته.
(13) فعند أكل آدم من عود المعصية، انتُزعت روح الله منه، فمات بحقٍّ من الله موتاً معقولاً، الذي هو الموت الحقاني. لأن هذا الموت المحسوس هو انتقال لمن عمل وصايا الله، ينتقل (من) الموت إلى الحياة. فلما نزع الله روح قدسه من آدم (في) ذلك اليوم الذي أكل من الشجرة المنهي عنها، حكم عليه بعد ذلك بالموت المحسوس قائلاً: «ملعونة الأرض من أجل عملك هذا، وشوكاً وحسكاً تنبت لك كل أيام حياتك، وبعرق جبينك تأكل خبزك، حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى التراب تعود».
(14) فأمضى الله فيه الموت المعقول ذلك اليوم، ثم حكم عليه بالموت المحسوس. وكان رجاء الحياتين قد فُقد منه، وكذلك نسله من بعده مثله، ولم يقدر أحدٌ من كافة نسله أن يرد إلينا الحياة الأبدية التي بلا انقضاء لأنها غير لائقة به، لأن الحياة التي بلا انقضاء لا تكون إلا للذي هو بلاهوته، لأننا غير محتملين لذلك، فتفضل وأوصلها إلينا بالتجسد العجيب. لأن حيث هو غير منظور بلاهوته، اتحد بجسد بشري كامل مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية فقط، فأوصل الحياة لذلك الجسد المتحد به، ثم قبل به الآلام عنا، وأظهره غالباً للألم والموت بقيامته (بإقامته) له من بين الأموات، ثم أوصل إلينا الحياة المؤبدة بالنسبة لذلك الجسد المأخوذ منا.
(15) وأراد ذلك تفضلاً، لأنه أراد أن لا نكون غرباء منه، فأشركنا في ذلك الميلاد الثاني وقبول روح القدس وأخذنا من سرائره المحيية، كما قال: «إذا لم تأكلوا جسد ابن البشر وتشربوا دمه ليس لكم حياة أبدية فيكم. من أكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه، وهو يحيا من أجلي» (يو 6: 54). فمن دون هذا السبيل لا يقدر بشر (أن) يرث ملكوت السموات.
(18) فلنرتل اليوم مع بولس الرسول قائلين: «الآن قد قام المسيح من بين الأموات، وصار أول المتضجعين. وكما أن بموت آدم صار جميع الناس يموتون، كذلك بالمسيح صار الكل تحيا به، جميع الناس كل واحد بهيئته. فالمسيح هو البدء، ثم من بعده عند مجيئه أولياؤه (مختاريه). حينئذ يكون الغاية» (1كو 15: 20-24).
(19) وقال في رسالة أخرى: «فإن كان الموت قد تسلط من أجل إنسان واحد، فكم أحرى الذين نالوا النعمة والعطية بالبر يملكون في حياة الأبد بالواحد يسوع المسيح. وكما أن الناس جميعاً شُجبوا بذنب إنسان واحد، كذلك ببر هذا الواحد (المسيح) يؤتى جميع الناس في لج (في عمق) الحياة. وكما أن بمعصية إنسان واحد كثرت الخطية، كذلك بطاعة واحد كثر الأبرارُ» (رو 5: 17-19).
ثم يختم بولس البوشي افتتاحية ميمره قائلاً:
(20) هذه الموهبة كملت لنا اليوم، يا أحبائي، بقيامة ربنا يسوع المسيح، التي بها تفرح قلوبنا وتتعزى من تذكار آلامه المحيية التي قبلها من أجلنا.
والمجد لله دائمًا