وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ
من أجمل الكلمات التي أعلنتها السماء، بصوت الملائكة، كانت البشرى للرعاة الساهرين في البادية على رعيتهم: «أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لوقا 2: 11).
وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ:
لم يكن ميلاد الرب يسوع من العذراء مريم حدثاً يخص هذه العائلة المباركة فقط، عائلة يوسف النجار وخطيبته، وربما أقاربه بالجسد. إنما حدث يخص البشرية كلها، البشرية التي كانت تنتظر منذ مئات السنين حضور المسيا لفداء شعبه: «وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ وَهِيَ مُتَقّدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ… وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً لاَ تُفَارِقُ الْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَاراً. فَهِيَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ الرَّبَّ وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ» (لوقا 2: 36-38).
لذلك أعلن الملاك هذه البشرى للرعاة: ولد لكم اليوم. فبقدر ما كان الصليب والقيامة يخصان البشرية كلها، هكذا أيضاً كان ميلاد الرب بالجسد يخص البشرية كلها. فأحداث حياة الرب يسوع ليست أحداثاً خاضعة للزمن والمكان، بل أحداثٌ إلهية، تتخطى الزمان والمكان. أحداثٌ تمت لنا نحن، لأنه هو لم يكن في احتياج لأي منها.
يتأمل القديس يوحنا ذهبي الفم في ميلاد الرب يسوع بالجسد في عظته على إنجيل متى (1: 1) قائلاً:
[«كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم» (مت 1: 1)،
في هذا قمة العجب:
أنه مع كونه ابناً خاصاً للإله غير المبتدئ، قد احتمل أن يُدعى ابناً لداود، لكي يجعلك أنت ابناً لله.
لقد احتمل أن يصير العبد (داود) أباً له، لكي يجعل السيد الرب أباً لك أيها العبد …
فحينما تسمع أن ابن الله هو ابن داود ابن إبراهيم، تيقَّن أنك أنت يا ابن آدم ستصير ابناً لله.
فليس جزافاً أو باطلاً قد وضع نفسه إلى هذا الحد، إلاَّ لأنه كان ينوي أن يرفعنا معه إلى فوق! فإنه قد وُلد بحسب الجسد لكي تولَد أنت بحسب الروح].
فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ:
هي مدينة بيت لحم، كما أطلق عليها الإنجيل المقدس: «فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ» (لو 2: 4). هذه المدينة التي تنبأ الكتاب المقدس أن منها يأتي المسيا، فادي شعبه، «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ» (ميخا 5: 2). هذه هي بيت لحم التي يقول عنها القديس كيرلس الكبير في تفسيره على إنجيل لوقا (2: 15):
[«لنذهب الآن إلى بيت لحم»: حيث أن بيت لحم تُفسَّر أنها «بيت الخبز»، فإلى أين كان الرعاة مزمعين أن ينطلقوا بعد أن سمعوا بشارة السلام، إلا إلى البيت الروحي الذي للخبز السماوي، أعني الكنيسة التي فيها يقدَّم كل يوم بالسر الخبز النازل من السماء الواهب حياة للعالم؟!]
مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ:
إن ميلاد الرب يسوع المخلص في بيت لحم، أضاف للبشرية أبعاداً جديدة لم تكن في استطاعة البشر لولا ولادة الرب من امرأة. فقد حُكم قديماً على حواء بالعقاب جراء خطيئتها مع آدم أبينا: «وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: تَكْثِيراً أُكَثِّرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ. بِالْوَجَعِ تَلِدِينَ أَوْلاَداً. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ» (تكوين 3: 16). كان عقوبة المرأة هي ولادة الأولاد بالوجع، ثم حكم عليها الناموس بعدم الطهارة إذا ولدت ولداً أو بنتاً، لكن عندما وُلد الرب يسوع من امرأة، رفع الرب العقوبة عن المرأة، وفي ذلك يقول القديس كيرلس الكبير في تفسيره على إنجيل لوقا (2: 8-18):
[ افهم أن الابن الوحيد صار جسداً، وأنه احتمل أن يولد من امرأة من أجلنا، لكي يبطل اللعنة التي حُكم بها على المرأة الأولى، فقد قيل لها: بالوجع تلدين أولاداً، فإنها كأنها كانت تلد للموت. ولذلك ذاقوا – أي أولاد المرأة – لدغة الموت. ولكن لأن امرأة قد ولدت في الجسد عمانوئيل، الذي هو الحياة، فإن قوة اللعنة قد أُبطلت، ومع إبطال الموت أُبطلت أيضاً الأوجاع التي تحتملها الأمهات الأرضيات في الولادة].
أي أن الأوجاع التي كانت تحتملها المرأة قديماً بولادة الأولاد كانت عقوبة من الله، أما أوجاع الولادة بعد التجسد، مثلها مثل جميع أنواع الآلام التي تقع على أولاد الله، فقد صارت شركة في آلام الرب، ولم تعد عقوبة بعد.
لنسبح الرب كل يوم، ونكرم أمه العذراء مريم، بهذه الكلمات التي تعلمها إيانا الكنيسة في ثيئوتوكية يوم الخميس:
[فخر جميع العذارى هي مريم والدة الإله، من أجلها أيضاً نُقضت اللعنة الأُولى التي جاءت على جنسنا من قبل المخالفة، التي وقعت فيها المرأة لما أكلت من ثمرة الشجرة. من أجل حواء أغلق باب الفردوس، ومن قبل مريم العذراء فتح لنا مرة أخرى. استحققنا شجرة الحياة لنأكل منها، أي جسد الله ودمه الحقيقيين.
فلنسجد لمخلِّصنا محب البشر الصالح، لأنه تراءف علينا، أتى وخلَّصنا].