تبعية المسيح وحمل الصليب

وصية أنبا مقار

54 – وقال أيضاً: «يا أولادي الأحباء، عظيمٌ هو مجدُ القديسين، فينبغي أن نفحصَ عن تدبيرِهم الذي نالوا بواسطتهِ هذا المجدَ، وبأي عملٍ وفي أي طريقٍ وصلوا إليه. وقد علمنا أنهم لم يشتروه بغنى هذا العالم ولا حصَّلوه بصناعةٍ ما أو بتجارةٍ ما. ولا اقتنوه بشيءٍ مما يملكون، إذ أنهم تمسكنوا وتغربوا عن هذا العالمِ، وجالوا جياعاً فقراءَ، فعلى ما أراه أجدُ أنهم نالوا ذلك المجدَ العظيمَ بتسليمهم ذواتهم وتدبيرِ أمورِهم ونيَّاتهم للهِ، فأخذوا إكليلَ المجدِ السمائي، فما الذي كان لهم وليس هو لنا سوى أنهم تركوا أهويتهم كلَّها من أجلِ الربِّ وتبعوه حاملين الصليب؛ ولم يفصلهم حبُّ شيءٍ آخر عن محبتهِ تعالى. لأنهم لم يحبوه أكثرَ من الأولادِ فقط مثل إبراهيم، بل وأكثر من ذواتِهم أيضاً، كما يقول بولس الرسول لا شيء يستطيعُ أن يفصلَه عن حبِّ الله.

الراهب والابتعاد عن العالم

318 – وبصدد الابتعاد عن العالم قال البار إشعياء: إني في بعضِ الأوقات كنتُ جالساً بقرب القديس مقاريوس الكبير حين تقدم إليه رهبانٌ من الإسكندرية ليمتحنوه، قائلين: «قل لنا كيف نخلص»؟ فأخذتُ أنا دفتراً وجلستُ بمعزلٍ عنهم لأكتبَ ما يتحاورون به. أما الشيخُ فإنه تنهَّد وقال: «كلُّ واحدٍ منا يعرف كيف يخلص، ولكننا لا نريد الخلاصَ»…

إن طقسَنا ملائكيٌّ لكننا جعلناه علمانياً. لا يكون هذا منّا يا إخوتي. إيانا أن نعمله، بل لنهرُبْ من العالم، لأنه إن كان بالكاد نخلص في البريةِ، فكيف يكون حالُنا بين العَلمانيين؟ فلن يكون لنا خلاصٌ، لا سيما والربُّ يقول: من لا يهجر العالمَ وكلَّ ما فيه وينكر نفسَه ويأخذ الصليبَ ويتبعني فلن يستحقَّني. وأيضاً يقول: اخرجوا من بينهم وافترقوا عنهم وأنا أقبلكم وأجعلكم لي بنينَ وبنات. أرأيتم عِظم المنفعةِ من الهربِ من العالم؟

540 – قال شيخٌ: «إن خاتم المسيح الظاهر هو الصليب، وخاتمه الباطن هو الاتضاع، فهذا مثل صليبه، وذاك مثل خُلُقِه».(س5: 123ج)

219 – وقال أيضاً (أنبا إشعياء): «…. إن أراد العقلُ أن يرتفعَ على الصليبِ فإنه يحتاج إلى طلبةٍ كثيرة ودموعٍ غزيرة وخضوعٍ في كلِّ ساعةٍ قدام الربِّ، ويسأل من طِيبَتِهِ المعونةَ حتى يقيمه غيرَ مقهورٍ متجدداً بالروح القدس. لأن شدائدَ كثيرةً عند ساعة الصليب، وهو محتاجٌ إلى صلاةٍ وإيمانٍ صحيح وقلبٍ شجيع ورجاءٍ بالله إلى آخر نَفَس. الذي له المجد إلى الأبد، آمين.(س5: 100ج)

مار اسحق الجزء الثاني، الميمر الثاني

17 – عمل الصلب مزدوج حسب ازدواج طبيعتنا التي تتركب من جزئين. العمل الأول هو الصبر على ضوائق الجسد، ويكمل بواسطة فعل جزء النفس الغضبي، ويُدعى «العمل». والثاني هو العمل اللطيف (أي الخفي) الذي للعقل بمفاوضته الإلهية ودوام الصلاة، ويكمل بجزء النفس الشهواني، ويُسمى «التاؤريا». فالعمل الأول يطهِّر جزء النفس الألمي بقوة الغيرة. والثاني ينقي جزء النفس العقلي بفعل حب النفس الذي هو الاشتياق الطبيعي (الكامن فيها).

18 – فالذي قَبْلَ أن يصعد إلى الجزء الأول (أي الصبر على ضوائق الجسد)، يجسر على الثاني (أي التاؤريا) من أجل اشتياق لذته – بل وأقول من أجل مَلله وكسله – ينهمر عليه غضب الله. لأنه لم يُمِت أولاً أعضاءه التي على الأرض، أي أنه لم يشفِ سقم أفكاره بالصبر على أتعاب الصليب ومحقرته، بل تجاسر أن يتخيل مجد الصليب في عقله. وفي هذا قال أحد القديسين القدماء: «إن أراد العقل أن يصعد على الصليب قبل أن تهدأ الحواس من ضعفها، أي أن تُشفى من الأوجاع، يأتي عليه غضب الله». فصعود الصليب الذي يحرك رجز الله لا يأتي من الجزء الأول الذي هو الصبر على الشدائد بصلب الجسد، ولكنه يأتي من شهوة الصعود إلى التاؤريا الذي هو الجزء الثاني الذي يكمل بعد شفاء النفس.ش

19 – فالذي يكون فكره مُدنَّساً بالأوجاع القبيحة، ويتخيل في عقله هذه الأفكار والخيالات، ينزل عليه قضيب الحق ليكفَّ ويسكت، لأنه لم ينقِّ فكره أولاً بالضوائق وقمع شهوات الجسد. ولكنه من مجرد سماع الأذن وقراءة الكتب بدون عمل، يريد أن يجري قبالة وجهه ليمشي في طريق مملوء ظلاماً وقد عميت عيناه، ويريد أن يتشبه بأولئك الذين صحَّت أبصارهم وهي ممتلئة نوراً، وقد اقتنوا هداية من النعمة. فحتى هؤلاء يكونون في شدائد ليلاً ونهاراً وأعينهم مملوءة من الدموع، وبالصلوات والبكاء يعبرون الليل مع النهار من أجل همِّ السعي والمواضع الشديدة الوعورة التي تلقاهم في الطريق مع الأشكال المتواترة والصور المخادعة التي تظهر لهم بشبه الحق.

مار اسحق، الجزء الثاني، الميمر السابع

1 – ماذا تقول إيها الإنسان؟ أتريد أن تصعد إلى السماء وتنال ذلك الملكوت، وتحظى بالشركة مع الله، وتدرك تلك الطوبى والنياح الذي للقديسين والخلطة مع الملائكة، وتقتني تلك الحياة التي لا تفنى، بينما أنت دائماً تسأل إن كان في هذا الطريق تعبٌ أم لا؟!

2 – يا للعجب! إن الذين يشتهون أمور هذا العالم الباطل يعبرون البحار الهائلة، ويسلكون الطرق الصعبة، ولا يرون في هذا تعباً أو حزناً في سبيل الوصول إلى الشيء الذي يحبونه، أما نحن فنسأل ونفتش في كل شيء عن الراحة! ولكننا إذا أخذنا في عقولنا طريق الصليب نفتش عنه ونفكر فيه، فأي حزن وأية شدة لا تكون هينة وخفيفة علينا؟

مار اسحق الجزء الثاني ميمر 29

18 – الصليب هو الباب الذي يؤدي إلى الأسرار. فالذهن يدخل من هذا الباب إلى معرفة الأسرار السمائية. ومعرفة الصليب هي مخفية في آلام الصليب، فكلما زادت شركتنا في آلامه، زاد الإدراك الذي نقتنيه من خلال الصليب. فكما يقول الرسول: «كما تكثر آلام المسيح فينا كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضاً»؛ والتعزية تعني التاؤريا التي تفسيرها رؤية النفس، فالرؤية تلد التعزية.

مار اسحق الجزء الثاني ميمر 42

2 – بدء تدبير سيرة الصلب هو الصبر بتغصب والانقطاع من كل محادثة الوجوه محبةً للصليب، وليكن الإنسان بغير اهتمام وعدم ذكر كل جيد ورديء، مع بغضة الكرامة والصبر بشجاعة على الظلم والعار والهزء على مثال ذلك الذي هزأوا به على الصليب وهو الذي يعطي الحياة للعالم.

15 – إن كانت نفسك قد استعدت لتدابير الصلب وتحمُّل عار الصليب والجري وراء يسوع ابن الله، احذر من معرفة الأفعال، ومن فخاخ المعرفة المخفية عن يمين سيرة الصليب ويسارها.

مار اسحق الجزء الثالث، الميمر الرابع

13 – سؤال: ماذا نفعل بالجسد إذا ما أحدق به المرض والثقل وارتخى معه العزم والإرادة من شهوة الصلاح، ومن النشاط الأول؟

جواب: إنما يحدث هذا الأمر من أجل أن الإنسان الذي هو بهذه الصفة يكون قد خرج نصفه وراء الله تعالى والنصف الآخر قد مكث في العالم. ولهذا فإن قلوبهم لم تنصرف أغراضها عما هنا، بل قد انقسمت أنفسهم: فهم تارة ينظرون إلى قدام وتارة أخرى إلى وراء. وعلى ما أظن فإن الحكيم يعظ هؤلاء المقتربين إلى الله تعالى مع انقسام مآربهم، ويقول: «لا تدنُ منها (أي الحكمة) بقلبين»، بل اقترب إليها كزارع وكحاصد.

ولأن الربَّ يعرف أنه بين الذين يرفضون العالم كلية هناك من قد استعدوا لذلك بإرادتهم بينما هم منقسمون بأفكارهم وراجعون إلى وراء لسبب الخوف من الضغطات، ولكونهم لم يطرحوا بعد شهوة الجسد عنهم؛ فقد آثر تعالى أن ينبذوها من ألبابهم، ولهذا حدَّ لهم حداً فقال: «من أراد أن يأتي ورائي فليجحد أولاً ذاته».

وما هو هذا الجحود الذي يذكره هنا؟ إنه جحود الجسد، إذ يكون مستعداً كمن قد دُعي للصعود على الصليب متصوراً في فكره الموت. وهكذا يخرج كإنسان غير مفكر في شيء من هذه الحياة. فمن آثر أن يتمم قول الرب: «يحمل صليبه ويتبعني»، فعلى هذه الصفة يجب أن يكون؛ لأن الصليب يدل على الإرادة المستعدة للقاء كل ضيقة.

ولما أراد الرب أن يوضِّح لنا العلة في أن هذا الأمر هو هكذا (أي بالصفة التي ذُكرت)، قال: «مَن يريد أن يحيا في هذا العالم فسيهلك ذاته من الحياة الحقيقية». أما الذي يهلك ذاته ههنا من أجلي، أي يسير في طريق الصلب ويضع خطواته فيها، لكنه يعود مرة أخرى ويهتم بهذه الحياة، فقد أهلك ذاته من الرجاء الذي بتوسطه خرج للقاء الضيق والضنك. لأن هذا الاهتمام لا يدعه يدنو من الحزن الذي من أجل الله تعالى؛ بل إنه (أي العالم) يجذبه بعد قليل ويخرجه من وسط جهاد الحياة السعيدة؛ وينمو فيه هذا الفكر ويقوى عليه حتى يقهره تماماً. أما الذي يقبل في فكره أن يهلك نفسه من أجل اقتناء حب المسيح، فإنه يُحفظ لحياة أبدية بلا لوم أو أذى. وهذا هو معنى قوله: «من يهلك نفسه من أجلي يجدها».

فضائل أنبا مقار:

(57) قال أنبا مقار أيضاً: إن طقس الراهب يشبه طقس الملائكة. فكما أن الملائكة يقفون أمام الرب كل حين ولا يعطلهم أي شيء أرضي عن الوقوف أمامه، هكذا أيضاً الراهب يجب عليه أن يكون كذلك طوال حياته. وبهذا السلوك يتمم قول مخلصنا الذي يوصي كل واحد منا أن ينكر ذاته ويحمل صليبه ويتبعه. هكذا أنتم أيضاً اغصبوا أنفسكم قليلا يا أولادي الأحباء، لكي تقتنوا الفضيلة وحدها. لأنه مكتوب إن ملكوت السموات هو للذين يغتصبونه.

من سيرة أنبا باخوميوس

وقيل إنه لما تفكّر في ذلك بدأ يقبل كل الآتين إليه، وبعد أن يمتحنهم ويستفسر عن أهلهم يُلبسهم إسكيم الرهبنة ويقبلهم بفرح وحب الله، ويقودهم في السيرة الروحانية قليلاً قليلاً. فيتحقق أولاً من تركهم للعالم (في قلوبهم) فيما يختص بأهلهم وذواتهم وتبعيتهم للمخلِّص الذي علّم هكذا، لأنّ هذا هو ما يعنيه حمل الصليب (لو14: 26). وبمجرد أن ينضموا إلى مجمع الرهبان كانوا يعطون أنفسهم لممارسات نسكية عظيمة وعديدة. وإذ كانوا يتعلمون منه جيدًا فبحسب الوصايا كانوا يثمرون بما يليق بدعوتهم (أف4: 1). وكانوا يتعجبون منه جدًا عندما يرونه يجاهد ليس في احتمال الأتعاب الجسدية فحسب؛ بل وفي اضطلاعه بنفسه بكل اهتمامات الدير تقريبًا، فكانوا ينتفعون جدًا ويزدادون حرارةً ونسكًا.

وفي مرة أخرى بينما كان يحدِّث الإخوة بتعاليم نافعة، حدث بغتةً أن روحه توقفت عن متابعة الكلام، وتحقق في نفسه، بقوة الروح الحال فيه، من سبب ذلك. فاستدعى مدبِّر الدير وقال له في هدوء: ”امضِ إلى القلاية الفلانية وانظر مَنْ هذا الذي يُسيء إلى نفسه، وكن شاهدًا عليه، كيف أنه يؤذي نفسه أولاً بعدم مجيئه لسماع كلمة الله لكي يتقوّى مقابل الروح الشرير الذي يحاصره ويجتذبه إليه، وثانيًا لنومه بدلاً من أن يصلّي إن كان لا يريد أن يأتي ليستمع إليَّ. ولستُ أظن أن هذا الإنسان يمكنه أن يصير راهبًا“ … وهكذا لم يشأ هذا الرجل أن يحمل الصليب حسب مقدرته، بل رحل من الدير ورجع إلى والديه. (فردوس الآباء، الجزء الثاني، الباب الثالث، الفصل الأول)

 

اضغظ هنا للتحميل